د. مصعب الخير إدريس السيد مصطفى الإدريسي
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين.. سيدنا محمد، وعلى آله الأطهار، وصحبه الأبرار، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فلا يقصد هنا بالآراء الحشوية مجموعة من الآراء التي تبلورت داخل إطار فرقة محددة، أو طائفة معينة في تاريخ المسلمين العقدي، وإنما تلك الآراء التي نبتت في صفوف المسلمين وصار لها ممثلون بين الفرق المختلفة سواء في أهل السنة. أو بين الشيعة. أو لدى المترسمين بالتصوف.
أما كلمة «الحشوية» فيفسر أصلها ثلاثة أقوال متقاربة الإشارة، وإن تفرد الثاني منها بدلالة تاريخية خاصة لمبدأ إطلاق الكلمة. وأول هذه الأقوال : أنها مأخوذة من الحشو والإدخال بمعنى أن بعض السذج أوالمغرضين من الرواة كانوا يحشون الأحاديث التي لا أصل لها في الأحاديث المروية عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فيدخلونها فيها وليست منها.
والثاني: يتعلق بمدرسة سيد التابعين الحسن البصري، وقد حضر مجلسه يوما أناس من رعاع الرواة تكلموا بالسقط عنده فقال ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة، فسموا «الحشوية».
والثالث ــ الذي أميل إليه وآخذ به في هذه الدراسة ــ: هو الذي يرد الكلمة إلى ما تنتهي إليه آراءُ مَنْ جَسَّمَ وشَّبَهَ وتصَوَّرَ إلهه في حشو العالم، أي داخله .
1 ــ الآراء الحشوية في مجال الرواية:
ونبدأ بذكر حشو أهل الرواية الذي تمثل بين بعض رواة الحديث النبوي الشريف بعد انقضاء المئة الأولى من تاريخ المسلمين.
وكُتُبُ الفِرَقِ تذكر في هذا الصدد بعض الأسماء؛ مثل: كهمس، ومضر، وأحمد الهجيمي. وتروي أنهم أجازوا على ربهم الملامسة والمصافحة والمعانقة، وجعلوا له صورة ذات أعضاء وأبعاض؛ حتى إن الدكتور النشار ليُصَرِّح بأنهم مَثَّلوا الحشْوَ الهائل بأحاديثهم الضعيفة . ولي في نسبة هؤلاء إلى التشبيه والتجسيم رأي سأفصِّله ــ بمشيئة الله تعالى ــ في الكلام عن الآراء الحشوية في مجال التصوف.
وتذكر كتب الفرق أيضا أبا الحسن مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي (ت150هـ) وهو المُفَسِّرُ المعروف الذي تضاربت فيه أقوال أهل العلم كما لم تتضارب في أحد مثله؛ فتجد من يعده في ذروة السلف ويقرنه بمثل الإمام مالك بن أنس ويُروى عن الشافعي أن كل من طلب التفسير؛ فهو عيال عليه . ويذكره الأشعري وابن حزم في المرجئة . ومحمد بن إسحاق النديم والشهرستاني يعُدَّانه في رجال الزيدية .
وفي نسبته إلى التجسيم والتشبيه روي عن أبي حنيفة من طريق أبي يوسف: «أفرط جهم في النفي حتى قال: إنه ـ تعالى ـ ليس بشيء. وأفرط مقاتل في الإثبات حتى جعل الله ـ تعالى ـ مثل خلقه». ومن طريق إسحاق بن إبراهيم: «أتانا من المشرق رأيان خبيثان: جهم معطل، ومقاتل مشبه» .
ونجد هذه النسبة عند أمثال الخياط في الانتصار، والأشعري في «مقالات الإسلاميين». وابن حزم في «الفصل». والجويني في «الشامل». وعبد الكريم البزدوي في «أصول الدين». وأبى المعين النسفي في «تبصرة الأدلة» .
وشيخ الإسلام ابن تيمية يتوقف شاكا في نسبة مقاتل إلى التشبيه والإرجاء فيقول: «أما مقاتل، فالله أعلم بحقيقة حاله. والأشعري ينقل هذه المقالات من كتب المعتزلة، وفيهم انحراف على مقاتل بن سليمان؛ فلعلهم زادوا في النقل عنه. أو نقلوا عن غير ثقة، وإلا فما أظنه يصل إلى هذا الحد، وقد قال الشافعي: من أراد التفسير فهو عيال على مقاتل، ومن أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة».
وقال ابن تيمية أيضا: «ومقاتل بن سليمان، وإن لم يكن مممن يحتج به في الحديث، بخلاف مقاتل بن حيان فهو ثقة، لكن لا ريب في علمه بالتفسير وغيره واطلاعه» .
وهنا يحق لنا أن نتساءل: لماذا أسقط علماء الجرح والتعديل الاحتجاج برواية مقاتل بن سليمان إذا لم يتابع كما قال شيخ الإسلام نفسه في موضع آخر؟ .
وجواب ذلك في كتب هذا الفن وسأذكر منها ما يبين أسباب سقوط روايته. قال ابن المبارك لما نظر إلى شيء من تفسيره: يا له من علم لو كان له إسناد . وقال ابن عينة فما أعلمه ...
وقال العباس بن مصعب المروزي: مقاتل بن سليمان، أصله من بلخ قدم مرور فتزوج ... وكان حافظا للتفسير لا يضبط الإسناد ...
وقال عبد الصمد بن عبد الوارث: قدم علينا مقاتل بن سليمان، فجعل يحدثنا عن عطاء، ثم حدثنا بتلك الأحادث عن الضحاك، ثم حدثنا بها عن عمرو بن شعيب فقلنا له: ممن سمعتها؟ قال منهم كلهم، ثم قال: لا والله لا أدري ممن سمعتعها. قال: ولم يكن بشيء .
إذن لقد كان مقاتل عالما بالتفسير؛ لكنه لا يضبط الإسناد، وأهل هذا الفن يقولون: «لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء» .
وقال أبو إسماعيل الترمذي، عن عبد العزيز بن عبد الله الأريسي قال: حدثنا مالك بن أنس أنه بلغه: أن مقاتل بن سليمان جاءه إنسان، فقال له: إن إنسانا جاءني فسألني عن لون كلب أصحاب الكهف؛ فلم أدر ما أقول له؟ فقال له: ألا قلت أبقع. فلو قلته لم تجد أحدا يرد عليك. قال أبو إسماعيل: وسمعت ابن حماد يقول: هذا أول ما ظهر لمقاتل من الكذب.
وعن إسحاق بن إبراهيم قال: أخبرني حمزة بن عميرة، وكان من أهل العلم. أن خارجة مر بمقاتل وهو يحدث الناس، فقال حدثنا أبو النضر يعني الكلبي. قال: فمررت عليه مع الكلبي، فقال الكلبي: والله ما حدثته قط بهذا. ثم دنا منه فقال: يا أبا الحسن، أنا أبو النضر، وما حدثتك بهذا قط. فقال: اسكت يا أبا النضر؛ فإن تزيين الحديث لنا إنما هو بالرجال .
لم يكن الرجل غير ضابط للإسناد فحسب، وإنما كان يتعمد الكذب، ولهذا قال فيه ابن معين: ليس بثقة، ليس بشيء. وقال البخاري: منكر الحديث سكتوا عنه. وقال في موضع آخر: لا شيء ألبتة. وقال النسائي: كَذَّاب. وقال: المعرفون بوضع الأحاديث على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أربعة: إبراهيم بن يحيى بالمدينة، ومقاتل بخراسان، ومحمد بن سعد المصلوب بالشام، والواقدي ببغداد. وقال الدرا قطني: يكذب. وعده في المتروكين. ومن قبل قال وكيع؛ سمعت من مقاتل، ولو كان أهلا أن يروي عنه لروينا .
لكن هل وقف الأمر بمقاتل عند تضييع الضبط في الإسناد أو تعمد الكذب في الرواية، أو جاوز ذلك إلى حد الابتداع في الدين؟.
قال أحمد بن سيار المروزي: هو متهم متروك الحديث مهجور القـــول، وكان يتكلم في الصـــفات بما لا يحــلُّ ذكره ..
وقال ابن حيان: كان يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم، وكان مشبها يشبه الرب ـ سبحانه وتعالى ـ بالمخلوقين، وكان يكذب مع ذلك في الحديث.
وقال القاضي الخوارزمي: سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول: أخرجت خراسان ثلاثة لم يكن لهم في الدنيا نظير ـ يعني في البدعة والكذب: جهم، ومقاتل، وعمر بن صبح . ولهذا قال خارجة بن مصعب: كان جهم ومقاتل عندنا فاسقين فاجرين. وقال: لم أستحل دم يهودي ولا ذمي، ولو قدرت على مقاتل بن سليمان في موضع لا يرانا فيه أحد لقتلته .
وبعد؛ فهذه حال مقاتل بن سليمان كما قدمها الحفاظ أهل المعرفة بالرجال، وإنه ليلزمنا الآن أن نفرق بين علم مقاتل بالتفسير ومكانته في تاريخه من جهة، وبين سقوطه في الرواية وفساد اعتقاده في الله من جهة أخرى . وإنه ليبدو لي أن سعة ثقافة مقاتل وإفادته من تراث الأمم المجاورة للمسلمين. والكتب السابقة عند اليهود والنصارى، كما رأينا في ترجمته، كل أولئك جعل لمقاتل مكانة كبيرة في علوم التفسير ذات المجالات المتنوعة؛ لكن هذه الروافد نفسها إذا أضفنا إليها جراءة مقاتل على الكذب إن أعوزه الدليل في تثبيت رأي مال إليه، هي التي سحقت علو مرتبته عند حفاظ الحديث وسدنة الرواية من جهة، وأفسدت عليه اعتقاده وقادته إلى هاوية الابتداع والتشبيه من جهة أخرى.
ونخلص من هذا إلى أن مقاتل بن سليمان لم يصدر في تشبيهه أو في تجسيمه عن مجرد الرواية، وإجراء ألفاظ الأخبار على ظاهرها فحسب؛ لكن يضاف إلى ذلك أن الرجل تأثر بثقافته المتعددة الروافد في بناء اعتقاده، وقام بصوغ ما يدل على ثبوته من الروايات.
وهناك شخصية أخرى ذكرها الأشعري مع مقاتل؛ لكنها من الجناح الشيعي، الذي نلوى دفتنا الآن جهته، وذلكم هو داود الجواربي، وقد حكى عنهما الأشعري في موضعين من مقالاته القول بأن الله تعالى جسم، وأن له جثة، وأنه على صورة الإنسان : لحم، ودم، وشعر، وعظم، له جوارح وأعضاء من يد، ورجل، ورأس وعينين... مُصْمَتٌ، وهو مع هذا لا يشبه غيره، ولا يشبهه غيره. وقال داود: أجوف من فيه إلى صدره، ومُصْمَتٌ ما سوى ذلك.
وحكى البغدادي والشهرستاني عن داود أنه قال: أعفوني من الفرج واللحية، وأسألوني عما وراء ذلك .
ويذكر عبد الكريم بن منصور السمعاني في «الأنساب» أن داود أخذ ذلك عن هشام الجواليقي .
وهشام هذا كان يقول في ربه: إنه على صورة الإنسان. وأنكر أن يكون لحما ودما. وقال: إنه نور ساطع يتلألأ بياضا، وإنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان، سمعه غير بصره، وكذلك سائر حواسه، له يد ورجل، وأذن، وعين، وأنف ... وإن له وفرة سوداء . وحكى عنه البغدادي والشهرستاني: أن أعلاه مُجَوَّفٌ، وأسفله مُصْمَتٌ. وأضاف البغدادي : أن له قلبا ينبع منه الحكمة.
ونضيف هنا إلى تشبيه الرواية عند الشيعة أبا جعفر الأحول محمد بن النعمان (ت حوالي 160هـ)، وقد حكى عنه الشهرستاني أنه كان يقول: قد ورد في الخبر «إن الله خلق آدم على صورته»، و «على صورة الرحمن»؛ فلا بُدَّ من تصديق الخبر «ولهذا كان الأحوال يقول: إن الله ــ تعالى ــ عن قول الظالمين ـ نور على صورة إنسان رباني. وينفى أن يكون جسما» .
وقد أورد الشهرستاني في كلامه عن المشبهه مجموعة من الروايات المنسوبة إلى الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ منها الصحيح والضعيف والذي لا يعرف له أصل عند علماء الحديث، وقال: إن المشبهة أجروا ألفاظ هذه الأخبار على ما يفهم عند الإطلاق على الأجسام، «وزادوا فيها أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأكثرها مقتبسة عن اليهود» .
ولقد سارع الدكتور النشار ـ غفر الله له ـ بتعميم الحكم على كل ما أورده الشهرستاني بأنه من إسرائيليات الأخبار، وأن الشهرستاني يرى مصدر هذه الروايات جميعا هم اليهود؛ إذ التشبيه فيهم طباع. وكأني به يرى حشو الرواة قاصرا على النقل من اليهود، واختلاق الأخبار، وإجرائها على الظاهر وفق ما يفهم عند الإطلاق على الأجسام .
وإنها لإحدى الكبر تعليقه الدكتور النشار على رواية «إن العرش ليئط من تحته كأطيط الرحل الجديد، وإنه ليفضل من كل جانب أربع أصابع»؛ إذ يقول: «ومن العجيب أن محدثا مشهورا كجبير بن مطعم يروى هذا الحديث، ويرد عليه البيهقي في «الأسماء والصفات» بأن هذا الكلام إذا كان جرى على ظاهره؛ فإن فيه نوعا من الكيفية، والكيفية عن الله ــ تعالى ــ وعن صفاته منفية؛ فعُقِلَ أنْ ليس المراد منه تحقيق هذه الصفة، ولا تحديده على هذه الهيئة؛ وإنما هو كلام أريد به تقرير عظمة الله وجلاله» .
وهذه الرواية بلفظها المذكور عند الشهرستاني: لم يخرجها البيهقي في «الأسماء والصفات» لا عن جبير بن مطعم ولا عن غيره، ولقد رأيت قريبا منها في لفظ رواية مُعَلَّةٍ نقلها ابن الجوزي عن ابن جرير من طريق عبد الله بن خليفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كرسيه وسع السموات والأرض، وإنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع، ثم قال بإصبعه فجمعها، وإن له لأطيطا كأطيط الرحل إذا ركب من ثقله».
وسند هذه الرواية مرسل، وقد ذكر ابن الجوزي لها أصلا متصلا عند الدار قطني من طريق أبى إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن ابن عمر، ولفظه: «أن امرأة جاءت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فقالت: ادع الله ــ تعالى ــ أن يدخلني الجنة. فعظم الرب ـ عز وجل ـ فقال ـ صلى الله عليه وسلم : إن كرسيه وسع السموات والأرض، وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله».
وليس في رواية الدار قطني «وإنه ليقعد عليه فما يفضل منه ...» وقد قال ابن الجوزي: «هذا حديث مختلف جدا» ورأى أن لفظ «وإنه ليقعد» و «إذا جلس» في الرواية الثالثة مما ساقه ـ من تخليط الرواية وسوء حفظهم» .
وقد نقل ابن المطهر الحلي عن مقالات الكعبي لفظ ما نقل الشهرستاني : «إنه يفضل من العرش من كل جانب أربع أصابع» .
وقال شيخ الإسلام عن هذا اللفظ في رده على الحلي: فهذا لا أعرف قائلا له ولا ناقلا، ولكن روى في حديث عبد الله بن خليفة أنه: «ما يفضل من العرش أربع أصابع». يُروَى بالنفي ويُروَى بالإثبات، والحديث قد طعن فيه غير واحد من المحدثين كالإسماعيلي وابن الجوزي، ومن الناس من ذكر له شواهد وقوَّاه» .
أما رواية البيهقي في «الأسماء والصفات» من طريق أبي الأزهر عن وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده؛ فقد جاء فيها، جواب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ للأعرابي الذي سأله أن يستسقى ربه، واستشفع بالله عليه وبه على الله؛ فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: «سبحان الله. سبحان الله». فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ـ رضي الله تعالى عنهم ـ فقال: «ويحك أتدري ما الله؟ إن شأنه أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد».
وأحسن ألفاظ الحديث بعد ذلك ما اختاره البيهقي مما خرجه أبو داود في كتاب السنن ، من طريق أحمد بن سعيد الرباطي، عن وهب بن جرير بنحو سند أبي الأزهر، «إن عرشه على سمواته لهكذا، وقال بأصابعه مثل القبة عليه، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب».
وضعف البيهقي الحديث بتفرد محمد بن إسحاق في روايته عن يعقوب بن عتبة؛ لأن ابن إسحاق هذا متكلم فيه، فلا يؤخذ بروايته في صفات الله ــ تعالى .
هذه واحدة، والثانية: أن جبير بن مطعم ـ رضي الله تعالى عنه ـ الذي توهمه الدكتور النشار محدثا مشهورا رد عليه البيهقي، ليس كما زعم، وإنما هو صاحب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الذي ينتهي إليه سند الرواية برفعه إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم.
والثالثة: أن ما ذكره على أنه رد البيهقي ليس من كلامه، فالبيهقي تكلم عن سند الحديث وبين ضعفه، فعلام يشتغل بتأويله؟ لكنه قال في ختم كلامه: «وقد جعله أبو سليمان الخطابي ثابتا، واشتغل بتأويله»، ثم ساق كلام الخطابي الذي نقل منه النشار، وهو تأويل للحديث باعتبار ثبوته، وليس ردا على راويه وناقله، وبعض أهل العلم يميلون إلى ذكر تأويل حسن لضعيف الأحاديث على فرض الثبوت والصحة .
والحق الذي لا مراء فيه أن المرويات التي اعتمد عليها الحشوية في آرائهم. وأجروها على ظاهرها معتقدين المعاني التي تتعلق بالأجسام ؛ فهوت بهم إلى تشبيه الله ـ تعالى ـ بخلقه، أو هم هووا بها .. هذه المرويات ليست جميعا ساقطة لا يصح إسنادها إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ؛ بل فيها الصحيح الذي فهموه على غير وجهه، وأجروا لفظه على ظاهره الذي يجري عليه عند الإطلاق على الأجسام.
ومن ذلك حديث سنحتاج إليه فيما بعد، وهو حديث «خلق الله آدم على صورته» وقد تبينا من قبل في نص الشهرستاني كيف صدر الأحوال محمد بن النعمان الإمامي في تشبيهه عن هذا الحديث.
وهذا اللفظ بعض روايات صحيحة خرجها الشيخان: الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت256هـ)، والإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري (ت261هـ)، وهي من أصح الصحيح باتفاق أهل العلم وقد خرجها غيرهما من أهل الحديث أيضا.
وقد روى البخاري ومسلم بسنديهما عن همَّام بن منبه، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : «خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلمَّا خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك النفر، وهم نفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يجيبونك؛ فإنها تحيتك وتحية ذريتك. فذهب فقال: السلام عليكم، فقالوا وعليك السلام ورحمة الله فزادوه، رحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعا؛ فلم يزل الخلق ينقص بعد حتى الآن» .
وفي «صحيح مسلم» بسنده عن أبي أيوب الأزدي، وهو عبد الملك بن مالك المراغي، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: «إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته» .
وتابعه في «مسند أحمد» الأعرج عن أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: «إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته» .
وفي المسند أيضا من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: «إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه، ولا يقل: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك؛ فإن الله ـ تعالى ـ خلق آدم على صورته» .
ولقد لاحظت أن الشيخين: البخاري ومسلما لم يرويا لفظ «خلق الله آدم على صورته» مبتورا عن سياقه الذي يوضح المراد منه، ولم يسوقا الروايات التامة في أبواب تسلكها في أخبار الصفات؛ فالبخاري يروي حديثه في كتاب الإستئذان ـ باب بدء السلام، ويكرره في كتاب الأنبياء ـ باب قوله تعالى إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً البقرة/30. ولو فهم منه غير هذا؛ لكرره في أحد أبواب كتاب التوحيد، ويروي مسلم حديث البخاري في موضع تُرجم له فيما بعد بكتاب الجنة ـ باب يدخل الجنة أقوام..، ويسوق الرواية التي تفرد بها فيما ترجم له بكتاب البر ـ باب النهي عن ضرب الوجه .
ولكن هذا اللفظ ـ فيما يبدو لي ـ قد شاع مبتورا عن سياقه بين الرواة منذ وقت مبكر، كما رأينا في نقل الشهرستاني عن أبي جعفر الأحول؛ فأشبه ذلك على جهلاء الرواة، بل وعلى كثير من أهل العلم؛ لا سيما أنه ظهرت له روايات من طريق الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : «لا تقبحوا الوجه؛ فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن».
وقد أعَلَّ ابن خزيمة هذا الرواية بثلاث علل، وذكر لها تأويلا حسنا على فرض ثبوت اتصال سندها وصحته ، وخالفه بعض المحدثين في الحكم على السند ورووا له شاهدا من حديث أبي يونس عن أبي هرير بلفظ «من قاتل فليجتنب الوجه؛ فإن صورة الإنسان على صورة وجه الرحمن ـ عز وجل» .
وبناء على هذا ذهب بعض الرواة إلى اعتقاد الصورة في الله ــ تعالى ــ وأنه على صورة الإنسان، وكان من تخليطهم وتشبيههم ما سبق ذكره.
وأما زلَّةُ مَنْ زَلَّ فيه من أهل العلم؛ فمائلة في اعتبار الحديث من أخبار الصفات التي تُمَرُّ كما جاءت، ويُسْكَتُ عن تفسيرها ولا يُقال فيها: لم وكيف؟ وإنما يقع عليها الإيمان والتفويض في المعنى والكيف، أو في الكيف دون المعنى؛ وإنك لترى إماما محدثا في رتبة أبي بكر محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي الآجُرِّي (ت360هـ) يذكر في كتابه «الشريعة» بعض روايات الحديث، ثم يسوق رواية ابن عمر بالإسناد نفسه الذي أعلَّه ابنُ خزيمة، ويقول بعدها: «هذه من السنن التي يجب على المسلمين الإيمان بها، ولا يقال فيها: كيف، ولم؟ بل تستقبل بالتسليم والتصديق وترك النظر، كما قال أئمة المسملين».
ويروي الآجُرِّي عن الإمام أحمد رواية عامة مفادها: أنه سئل عن الأحاديث التي ردها الجهمية في الصفات، والأسماء، والرؤية، وقصة العرش؛ فصححها وقال: «تلقتها العلماء بالقبول تسلم الأخبار كما جاءت».
وقال الآجري : «سمعت أبا عبد الله الزبيري ـ رحمه الله ـ وقد سئل عن معنى هذا الحديث، فذكر مثل ما قيل فيه، ثم قال: قال أبو عبد الله: نؤمن بهذه الأخبار التي جاءت كما جاءت، ونؤمن بها إيمانا، ولا نقول: كيف؟ ولكن ننتهي في ذلك إلى حيث انتهى بنا ...» .
وقبل الآجري تجد مثل الإمام عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت276هـ) في كتابه «تأويل مختلف الحديث» يعتبر الروايات الصحيحة لهذا الحديث ضربا من التأويل لجأ إليه أهل النظر، ويرى أن كثرة اللجاج حملت قوما على أن زادوا في الحديث فقالوا: روى ابن عمر عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : فقالوا: «إن الله عز وجل خلق آدم على صورة الرحمن». يريدون أن تكون الهاء في «صورته» لله ــ عز وجل.
ولأن ابن قتيبة قرأ في التوراة أن الله ـ عز وجل ـ لما خلق السموات والأرض قال: نخلق بشرا بصورتنا؛ فخلق آدم من أدمة الأرض، ونفخ في وجهه نسمة الحياة. وكذلك حديث ابن عباس، وفيه أن موسى ـ عليه السلام ـ ضرب الحجر لبني إسرائيل فتفجر ، وقال اشربوا يا حمير. فأوحى الله إليه: عمدت إلى خلق من خلقي، خلقتهم على صورتي، فشبهتهم بالحمير. فما برح حتى عوقب. أقول: لأن ابن قتيبة قرأ ذلك؛ فهو لا يجد غضاضة في أن يقول: «فإن صحت رواية ابن عمر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ــ؛ فهو كماقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ــ فلا تأويل ولا نزاع». وابن قتيبة لا يؤمن ويسكت عن التفسير كما فعل الآجري، وإنما يقول: «والذي عندي ـ والله أعلم ـ أن الصورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين، وإنما وقع الإلف لتلك لمجيئها في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد» .
إذن ابن قتيبة على أحسن الظن بكلامه يقول: «صورة لا كالصور». كما يقال: «يد لا كالأيدي، وعين لا كالأعين». وهذا لعمري قول عجيب؛ لأن آدم المعلوم الصورة والهيئة الموروثة في أبنائه مخلوق على هذه الصورة الإلهية التي ليست كالصور!! وهذا خلاصة النقد الذي وجهه ابن فورك لكلام ابن قتيبة في هذا الحديث ولقد جاهدت نفسي لتقف من هذه الرواية عند ما قاله الآجري ؛ فلم أستطع إلا أن أتابع ابن فورك (ت406هـ) في نقده لابن قتيبة وذلك النقد ـ فيما أرى ـ يطوى معه كلام الآجري في هذا الحديث خاصة .
إن تتبع كلام المحدثين على هذا الحديث وبيان معناه يبين لنا أنهم ـ وإن اتفقوا في منهج الرواية والصدور عنها في بناء العقيدة ـ مختلفوا المنازع في فهم الأخبار واستنطاقها عن مفردات البناء العقدي.
ولكن ثمة سؤال ينبغي في هذا المقام البحث عن جواب له. ولقد قصدت بالكلام عن حديث «خلق الله آدم على صورته» التمهيد لهذا السؤال وجوابه. وذلكم: إذا كان في الأخبار الصحيحة ما يوهم تشبيه الله بخلقه، أو يصل بالمرء إلى هذا التشبيه إن هو أجرى لفظه على ظاهره؛ فلم لم يظهر هذا التشبيه في حياة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أو في عهد الراشدين؛ بل إلى انقضاء المئة الأولى من تارخي المسلمين ـ فيما أزعم ـ بينما النصوص هي النصوص، والعرب هم العرب، والرواة العجم نسبا من موالي العرب، ولهم مثل ألسنتهم؟
فإن قيل: إن البغدادي وغيره من مؤرخي الفرق يذهبون إلى أن مبدأ ظهور التشبيه. كان في غلاة الرافضة، الذين ألَّهوا عليا وأنمتهم من آل بيت النبوة ومن غيرهم، وشبهوهم بذات الله. وهؤلاء كان بدء ظهورهم في آخر عهد الراشدين. يشيرون بذلك إلى أتباع عبد الله بن سبأ ومن جاء بعدهم من غلاة الرافضة .
قلت: الحق أن هؤلاء الغلاة مرتدون مشركون ليسوا من الإسلام في شيء، وقد صرَّحوا بعبادة غير الله ـ تعالى ـ وبما ينقض انتسابهم إلى دينه من إدعاء النبوة وغير ذلك من أنواع الكفر الصريح بالله ورسوله، وقد تبرأ منهم الشيعة كما تبرأ منهم أهل السنة مثبتو خلافة الثلاثة على حد سواء. وقد قرأنا للشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء من كبار شيوخ الشيعة الاثنا عشرية المعاصرين: «أما (عبد الله بن سبأ) الذي يلصقونه بالشيعة أو يلصقون الشيعة به؛ فهذه كتب الشيعة بأجمعها (مليئة) بلعنه والبراءة منه، وأخف كلمة تقولها كتب الشيعة في حقه، ويكتفون بها عن ترجمة حاله عند ذكره في حرف العين هكذا: عبد الله بن سبأ ألعن من أن يذكر» .
أما بيان بن سمعان، والمغيرة بن سعيد؛ فقد قتلهما خالد بن عبد الله القسري في ولايته على العراق ـ بعد انقضاء المئة الأولى على الزندقة وإدعاء النبوة. وكان بيان بن سمعان يؤله عليا، ويرى أن فيه جزءا إلهيا متحدا بناسوته، ثم في ابنه محمد ابن الحنفية من بعده، ثم في أبي هاشم ولده، ثم في بيان .. قال الحافظ الذهبي: «وقد كتب بيان إلى أبى جعفر الباقر يدعوه إلى نفسه، وأنه نبي» .
أما المشبهة الذين نتحدث عنهم هنا؛ فأولئك الذين يزعمون أنهم يعبدون الله الواحد الأحد، ويعتقدون فيه بمروياتهم أنه ـ تعالى ـ على صورة الإنسان له أعضاء وجوارح، وأنه مع ذلك لا يشبه المخلوقات ولا يشبهه منها شيء؛ وقد روي أنَّ مقاتل بن سليمان سأله الخليفة؛ بلغني أنك تشبه؟ فقال مقاتل: إنما أقول: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. وسردها؛ فمن قال غير ذلك فقد كذب .
إن هؤلاء المشبهة يتشبثون بالنصوص في تشبيه الله، مع إفرادهم له ـ جل وعلا ـ بالألوهية؛ وإن رأينا أن معبودَهم شبيهَ الخلق غيرُ الله ـ تعالى ـ حقيقةً. وإنك تجد البغدادي نفسه ـ بعد ذكر غُلاة الشيعة في بيانه لمذاهب الذين ضلوا في تشبيه الذات ـ يقول: «وهذه الأصناف الذين ذكرناهم في هذا الفصل كلهم خارجون عن دين الإسلام وإن انتسبوا في الظاهر إليه». ويقول قبل ذكره للمشبهة الذين نتكلم عنهم: «وبعد هذا فرق من المشبهة عدهم المتكلمون من فرق الملة؛ لإقرارهم بلزوم أحكام القرآن وإقرارهم بوجوب أركان شريعة الإسلام من الصلاة والزكاة ...، وإن ضلوا وكفروا في بعض الأصول العقلية» فذكر الهشامين، ويونس بن عبدالرحمن القمي، وداود الجواربي من الشيعة، والكرامية وغيرهم من أهل السنة .
وأما السؤال الذي قدمته؛ فيمكننا أن نستعين في معرفة جوابه بالإمام أبي حامدالغزالي، فإنه قال في عرضه لتصوره منهج السلف وضوابطه في قبول أخبار الصفات الموهمة للتشبيه؛ «لا يجمع بين متفرق، ولقد بعد عن التوفيق من صنف كتابا في جمع هذه الأخبار خاصة، ورسم في كل عضو بابا، فقال: باب في إثبات الرأس، وباب في اليد إلى غير ذلك، وسماه «كتاب الصفات» فإن هذه كلمات متفرقة صدرت من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أوقات متفرقة متباعدة؛ اعتمادا على قرائن مختلفة تفهم السامعين معاني صحيحة، فإذا ذُكِرَتْ مجموعَةً على مثال خلق الإنسان؛ صار جمعُ تلك المتفرقات في السمع ـ دفعة واحدة ـ قرينةً عظيمة في تأكيد الظاهر، وإيهام التشبيه، وصار الإشكال في أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم نطق بما يوهم خلاف الحق؟ أعظمَ في النفس وأوقع ...» .
وأنا أقول : صدق ـ والله ـ أبو حامد، وهذه من فرائد درره ـ ولا أعرف عاقلا له أثارة من علم يشك في أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لم يقل هذه الأخبار جميعا في مجلس واحد، ولم يقلها عارية من القرائن التي توضح المراد منها في مقام ذكرها لسامعيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ولعلنا قد لاحظنا شيئا من ذلك فيما سبق من الكلام عن حديث «خلق الله آدم على صورته».
وهذه الأخبار بعد ذلك لم يحفظها جميعا ـ فيما أحسب ـ صدرٌ واحدٌ من الصحابة ـ رضوان الله عليهم؛ وإنما كان الواحد منهم يحفظ ما اتفق له سماعه من رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عارفا بمقام قيله، ومدركا لأسباب قوله.
يتبع ان شاء الله .