ط) الوحدة والتنوع في العمارة الإسلامية
ط.1. لعل الوحدة من أبرز خصائص فن العمارة الإسلامية، وتتجلى هذه الوحدة في العمارة الدينية والمدنية، وفي العمارة الخاصة والعامة على اختلاف المناطق وتتالي العصور. وتبقى هذه الوحدة العامل الأساس في تكوين هُوية العمارة الإسلامية، ومع أن المنشآت الدينية الإسلامية في الصين مثلاً قد خرجت عن وحدة فن العمارة، فإن تنوع الأساليب في العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى المغرب لم ينف هذه الوحدة، بل إن المنشآت الدينية التي أقيمت في أوروبا في باريس ولندن وميونيخ بقيت محافظة على هُويتها الإسلامية، وبمعنى عام فحيثما كان الإسلام منتشراً أو كان المسلمون أكثرية كانت الهُوية الإسلامية في العمارة أكثر ظهوراً.
ط.2. ويبقى تنوع أساليب العمارة دليلاً على دور الإبداع في التصميم المعماري، ودليلاً على تطبيع فن العمارة مع البيئة العمرانية والاجتماعية والثقافية التي تنشأ فيها، ويبقى تنوع العمارة الإسلامية ضمن الوحدة من الخصائص المميزة التي ستساعد في تكوين عمارة حديثة، تتمتع بالأصالة، وتعبر عن قابلية للتطور والتجديد والإبداع.
ط.3. يمتاز الفن الإسلامي وبخاصة العمارة، بالتنوع في الأساليب والطراز والأشكال، ومع أن سبب هذا التنوع هو تشجيع السلطة وقوة الاحتكاك، وتأثير البيئة، إلا أن الحرية الإبداعية لدى الفنان والمعمار كانت العامل الأهم في تراكم الإبداعات وتنوعها.
لقد حض الدين الإسلامي دائماً على العمل المسؤول وعلى المسؤولية، كما شجع على الزينة، وجعل الجمال والكمال صِنْوينِ. وكانت المبادئ الأساسية في تحديد القيم مثبوثة في الكتاب {ولا تَزِرُ وازرَةُ وِزْرَ أخرى} (سورة الأنعام، الآية: 164) {وقلِ اعملوا فسيرى اللهُ عملكم}. (سورة التوبة، الآية:105)، وحمل الله الإنسان رسالة الحياة :{إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما ًجهولاً} (سورة الأحزاب، الآية: 72)، في هذه الآية الكريمة يتبّدى حجم المسؤولية الملقاة على الإنسان، وكذلك حجم الحرية، والإرادة الممنوحة له، وهي تفوق بقوتها وعزمها قوة السماوات والأرض والجبال. وهذه الطاقة الضخمة التي يتمتع بها الإنسان، لا بد أن تتفاعل مع الحياة. عملاً منتجاً وإبداعاً. ولقد استطاع الإنسان المؤمن حامل هذه الأمانة الإسلامية، أن يبني أروع حضارة إنسانية أنشئت حتى الآن، متمتعاً بحريته، مدفوعاً بقوة الثقة الإلهية إلى هدف لا حدود له، متناسياً الجهد والبذل الذي سينفقه لتحقيق هذه الأهداف، فكان بذلك ظلوماً على نفسه جهولاً حجم تضحيته. ولقد تبدت هذه الأمانة في بناء الحضارة، علماً وفقهاً وعمارة وفناً. وكان على كل إنسان مبدع أن يستمد مبادئ إبداعه من تعاليم القرآن الكريم أولاً، التي أمدته بحرية واسعة، ولكنها مسؤولة، وأن يستمدها من حاجات الناس، ثانياًً، وهي حاجات مستمرة متنوعة بحسب مكانة الناس وبحسب أذواقهم وبحسب أغراض الفنون التي يبدعونها. فإذا كانت السلطة تسعى إلى تدعيم العمارة والفن للصالح العام، فإن السباق بين الملوك والحكام لرفع مستوى مدنهم كان حاداً وواسعاً باتساع عدد هؤلاء الحكام وعدد تلك المدن. أما الأفراد الساعون لتأمين استقرارهم وسعادتهم، فكان لكل منهم غرض وذوق وحلم يسعى إلى تحقيقه. من هنا كانت أمام المبدع فرص كثيرة لتنوع الإبداع ضمن حرية واسعة يسدد اتجاهها الفكر الجمالي الإسلامي، وبهذا كان التنوع مصحوباً دائماًً بوحدة الأسس الجمالية التي يقوم عليها الإبداع الإسلامي.
ط.4. ويجب أن نستعير أمثلة عن الفنون والعمارة في الحضارات الأخرى، لكي نوضح الفرق الكبير في حجم الإبداع والتنوع بين العمارة والفن الإسلامي، وبين تلك العمارة والفنون، فالفن الكلاسيكي، الإغريقي والروماني، اتبع أنظمة ثلاثة لم يخرج عنها المعماريون، وهي النظام الدوري والنظام الأيوني والنظام الكورنتي، وعلى الرغم من تعدد التسميات، فهي تخضع جميعاً إلى نظام معماري واحد، يتألف من الحامل والمحمول، المحمول مؤلف من الجبهة القائمة على الطُّنف (وهي ما أشرف خارجاً من البناء). والإفريز، ومن الحامل المكون من أعمدة متشابهة لا تختلف إلا باختلاف شكل التيجان. وإذا أخذنا مثالاً آخر، الفن المعماري المسيحي الرومي والغوطي والبيزنطي، فإننا نراها لا تخرج كثيراً عن مفهوم البازيليك الروماني، مع إضافات وافرة للتماثيل في العمارة الغوطية، وللرسوم الزجاجية والجدارية في العمارة البيزنطية.
ط.5. وفي فنون العمارة الإسلامية لامحل لهذا الحصر والتضييق في نظام العمارة، بل إن التعددية التي تتمتع بها فنون العمارة الإسلامية، وفنون الرقش والزخرفة والخط، تدل بوضوح على مقدرة المبدع المسلم على ابتكار أشكال لا حدّ لها، تتجلى في تلك المنشآت الضخمة التي نراها في أغرا وأصفهان وبغداد ودمشق والقاهرة والقيروان وقرطبة. والتي تعود إلى خمسة عشر قرناً من تاريخ الحضارة الإسلامية.
ولا يمكن أن ينسب هذا النوع إلى تعددية الحكام والدويلات، ذلك أن المبدع وحده هو الذي صمم ونفذ هذه الروائع وليس الملك أو المالك الذي بقي المموّل والمشجع فقط، وهذا يعني أن هذه الأشكال والأساليب الفنية والمعمارية كانت متعددة بتعدد مبدعيها، وليس بتعدد مشجعيهم، وان الإبداع المعماري والفني، قام على رؤية فردية قدمها المصمم، وعلى براعة تنفيذية قام بها الصناع المهرة.
وهكذا فإن (الشخصانية) التي أصبحت سمة الإبداع المعاصر كانت في الحضارة الإسلامية سمة العصور الإسلامية كلها.
(1) انظر كتاب الزركشي "إعلام السَّاجد بأحكام المَساجد"، طبع ، وزارة الأوقاف، القاهـرة، 1982م، ص 275 -226.
(2) وردت هذه الأحكام في رسالة ماجستير للباحث عبد الرحمن صالح الأطرم، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض.
(3) نلفت النـظر إلى أهمية هذه المراجع في البحث الجامعي، وهي:
· الهمداني، الإكليل، تحقيق الأكوع، (بغداد 1977 ـ 1980م)، ابن الكلبي الأصنام، تحقيق أحمد زكي، القاهرة،(1965م).
· ابن عساكر، تاريخ دمشق. نشرت منه حتى الآن 49 مجلداً، عن مجمع اللغة العربية بدمشق.
· ابن الهيثم، المناظر، ج 1، المجلس الوطني، الكويت، (1982م).
· المقريزي، المواعظ والاعتباربذكر الخطط: والآثار، دار صادر، بيروت.
· الجاحظ في كتب: البخلاء، الحيوان، رسالة، التربيع والتدوير.
· التوحيدي في كتب : المقابسات، الإمتاع والمؤانسة، رسالة الكتابة. رسائل إخوان الصفا.
(4) كتاب عيون الأخبار، لابن قتيبة ـ مرجع مهم يمكن الرجوع إليه، وبخاصة الجزء الأول، طبع دار الكتاب العربي، القاهرة.
(5) أصدرت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة في عام 1999 كتاب (القضاء بالمرفق في المباني ونفي الضرر) للإمام التطيلي ( تـ 386 هـ)، وهو من كتب التراث التي تعني بهذا الجانب من الحضارة الإسلامية.
(6) وردت هذه الشروط في كتاب المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج 2، ص 65 - 48.
(7) ويراجع كتاب الإكليل، نشر بغداد 1977م، ج 1، ص 190-177، وج 2، ص 36-10.
(
لقد عرضنا تفاصيل الهُوية الإسلامية في كتابنا، العمارة العربية (الجمالية، الوحدة، التنوع) نشر المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط، طباعة، روما، 1990م.
(9) توسع جان سوفاجيه في دراسة مسجد الرسول، صلى الله عليه وسلم، في المدينة، انظر كتابه:
J. Sauvaget: La Mosquée Omayyade de Medine, Paris, 1947
ودمتم في امان الله وحفظه ...