وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»(11)، فالإطراء المدح بالباطل، تقول: أطريت فلانًا مدحته فأفرطت في مدحه، قوله: «كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ» أي: في دعواهم فيه الإلهية وغير ذلك.(12) فهو نهاهم عن المدح بالباطل فقط، ولم ينهاهم عن المدح مطلقًا. فالإطراء الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الغُلُو في مدحه صلى الله عليه وسلم، وذلك بأن يُمْدح بما هو من خصائص الله؛ كأن يُرْفع إلى مقام الألوهية أو يعطى بعض صفات الله، كما قالت امرأة في زمنه وهي تمدحه: «وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ»، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَقُولِي هَكَذَا، وَقُولِي مَا كُنْتِ تَقُولِينَ»(13)، فنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاها، وذلك لأن علم الغيب من خصائص وصفات الله، وقد أمَرَ الله رسوله أن يقول: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}[الأعراف: 188]، فلا يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغيب إلا ما علَّمه الله.
وتُعدُّ قصيدة [الكواكب الدرية في مدح خير البرية]، والمعروفة باسم [البردة] من عيون الشعر العربي، ومن أروع قصائد المدائح النبوية، ودرة ديوان شعر المديح في الإسلام، الذي جادت به قرائح الشعراء على مرِّ العصور، وقد أجمع معظم الباحثين على أنها أفضل قصيدة في المديح النبوي إذا استثنينا لامية كعب بن مالك (البردة الأم)، حتى قيل: إنها أشهر قصيدة في الشعر العربي بين العامة والخاصة. وقد ذكر الشاعر في هذه القصيدة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من مولده إلى وفاته، وتكلَّم على معجزاته وخصائصه.
وقد وجَّه البعض انتقادات كثيرة، يرمون فيها قصيدة البردة وغيرها من قصائد المديح النبوي بالغلو، ولكننا نقول: إن الأصل في الألفاظ التي تجري على ألسنة الموحدين أن تُحمَل على المعاني التي لا تتعارض مع أصل التوحيد، ولا ينبغي أن نبادر برمي الناس بالكفر والفسق والضلال والابتداع، فإن إسلامه قرينة قويَّة توجب علينا ألا نحمل ألفاظه على معناها الظاهر إن اقتضت كُفْرًا أو فِسْقًا، وتلك قاعدة عامة ينبغي على المسلمين تطبيقها في كل العبارات التي يسمعونها من إخوانهم المسلمين.
ولنضرب مثلا للأبيات التي اتُهِمَت بالغلو، ثم نوضح المعنى الصحيح التي تُحْمَل عليه، من هذه الأبيات قوله:
مُحَمَّدٌ سَيِّدُ الكَوْنَيْنِ والثَّقَلَيْنِ والفَرِيقَيْنِ مِنْ عُرْبٍ ومِنْ عَجَمِ
فنجد أن المعنى المقصود من هذا البيت هو بيان مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه سيد أهل الدنيا والآخرة، وسيد الإنس والجن، وسيد العرب والعجم، ولا خلاف في هذا بين عامَّة المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: «أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(14).
وقوله:
يا أكْرَمَ الرُّسْلِ ما لِي مَنْ أَلوذُ به سِواكَ عندَ حلولِ الحادِثِ العَمِمِ
فالشاعر يقصد بالحادث العمم هنا هو يوم القيامة، وأن الناس كلهم يتجهون إلى الأنبياء لطلب الشفاعة، كما ورد في الحديث: «يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك- وقال ابن عبيد فيلهمون لذلك – فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا قال: فيأتون آدم صلى الله عليه وسلم، فيقولون: أنت آدم أبو الخلق، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول: لست هناكم -فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها - ولكن ائتوا نوحًا أول رسول بعثه الله -قال - فيأتون نوحًا صلى الله عليه وسلم، فيقول: لست هناكم -فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها - ولكن ائتوا إبراهيم صلى الله عليه وسلم الذى اتخذه الله خليلا . فيأتون إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فيقول: لست هناكم - ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها - ولكن ائتوا موسى صلى الله عليه وسلم الذي كلَّمه الله وأعطاه التوراة. قال فيأتون موسى -عليه السلام - فيقول لست هناكم -ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها- ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته. فيأتون عيسى روح الله وكلمته، فيقول: لست هناكم. ولكن ائتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم عَبْدًا قد غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى فَيُؤْذَنُ لِي، فَإِذَا أَنَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، قُلْ تُسْمَعْ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ رَبِّي، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَقَعُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ، قُلْ تُسْمَعْ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ . فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ – قَالَ: فَلاَ أَدْرِى فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ ،قَالَ: فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، أَيْ: وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ»(15).
فيتضح لنا بعد قراءة قصائد ودواوين المديح النبوي عبر تعاقبه التاريخي والفني أنه كان يستوحي مادته الإبداعية ورؤيته الإسلامية من القرآن الكريم أولًا، فالسنة النبوية الشريفة ثانيًا، اعتمادًا على الكتب المعتمدة في السيرة النبوية، مثل [السيرة النبوية لابن هشام]، و[السيرة النبوية لابن حبان]، و[الوفاء بأحوال المصطفى] لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، و[الشفا بتعريف حقوق المصطفى] للقاضي عياض، وغيرها.
وعلى هذا فمدح النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم القربات، وإنشاده في المسجد له فضلٌ كبيرٌ، وأن الأبيات التي اتُهِمَت بالغلو عند مراجعتها ومراجعة شروحها نجد أنها تُهَمٌ باطلةٌ، إذا فُهِمَ المقصود منها على أساس إحسان الظن، والله تعالى أعلى وأعلم.
قائمة المصادر والمراجع:
----------------------------
1- صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج النيسابوري، دار إحياء التراث العربي- القاهرة.
2- صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، دار ابن كثير – دمشق.
3- فتح الباري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار المعرفة – بيروت.
4- سنن الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، دار إحياء التراث – القاهرة.
5- المعجم الكبير، سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، مكتبة العلوم والحكم – المدينة المنورة.
6- سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، دار الفكر – بيروت.
الهوامش:
---------------------------
(1) صحيح البخاري، كتاب الأدب، حديث رقم (6223)، وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة حديث رقم (6542).
(2) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، حديث رقم (14).
(3) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، حديث رقم (178)، النسائي، كتاب الإيمان وشرائعه، حديث رقم (5030)، ابن ماجه، المقدمة، حديث رقم (70).
(4) شرح الباجوري على البردة ص 5، 6.
(5) يقال: «دَعِجَت العين دَعَجًا»: اشتد سوادها وبياضها واتَّسعت، فهي دعجاء.
(6) يقال: صحل فلان: كان في صوته بُحَّة.
(7) ثَجِل فلان: عظُمَ بطنه واسترخى.
(
الصَّعْلَةُ: الدِّقة والنحول والخفة في البدن.
(9) المعجم الكبير للطبراني 7/105.
(10) المعجم الكبير للطبراني 2/213.
(11) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، حديث رقم (3484).
(12) فتح الباري لابن حجر 6/490.
(13) صحيح البخاري، كتاب المغازي، حديث رقم (4051)، وأبو داود، كتاب الأدب، حديث رقم (4924)، والترمذي، كتاب النكاح، حديث رقم (1113) وقال: حديث حسن صحيح.
(14) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، حديث رقم (3375)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، حديث رقم (502).
(15) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، حديث رقم (495).
المصدر: قسم الأبحاث الشرعية بدار الإفتاء المصرية.
دار الافتاء المصريةهنا تجد الفتوي في الموقعوالله ورسوله أعلم ...