مرثية عمارة التي نظمتها أخته بنونة بت المك

أحبابي الأعضاء ..
سلام من تالانا لا تالكم .. تحفه المودة والرحمة ..
طالما أثرني ذلك الفيض الدفاق الذي يفجره موت الأحباب .. لاسيما من كانوا على رأس قومهم .. أو على رأس المكارم .. فقد أفلح شاعراتنا وشعرنا في تجسيد الوجع وكذلك تخليد المكارم والسير بها وسط الركبان ..
هذه محاولة للغوص في ذلك الفن الحزين إن جاز لنا تسميته .. وتوظيف الحزن لإعلاء قيمة المكارم والإقدام .. تصغير شأن الموت .. وإستغصار الحياة التي لاخير فيها إن لم يكن لنا فيها بصمة واضحة ..
سأبدا بمرثية عمارة التي نظمتها أخته بنونة بت المك [ وليس تعنصراً ] ولكن من باب أهل مكة أدرى بشعابها والباب مفتوح بمصرعية للتوثيق لهذا الفن من كل نواحي السودان وجلب النماذج .

الأرباب:
ماهو الفافنوس -
هي أغنية تراثية وتندرج في أدبنا الموروث تحت باب الرثاء أو قل المناحة وهي من النواح الذي يرد في بعض البلاد العربية باسم النياحة. وكما هو معلوم فإنّ النواح أو الرثاء يحمل في مدلوله الإنطباعي ملامح الحزن الموجب للفجيعة والإنكسار ولكننا ومن خلال الإطلاع المتواضع على المشابه في بلاد عربية أخرى، وجدنا أنّ هذا الباب في أدبنا الشعبي تغلب عليه معاني الشجاعة والحكمة والتحدي والمديح المتعدد الجوانب والمرامي ولا غرو إذ أنّ المخاطب في تلك المناسبات وأشباهها هم الأحياء لا المتوفى في رسالة واضحة المعاني تتلخص في أنّ إنكاركم لذواتكم أثناء حياتكم وما قدمتم من خيّر الأعمال لن يقدر الموت على طمسه أو سلبه منكم فهو محفوظ لكم و . . (شكّار نفسه إبليس - والله ما يجيب يوم شكركم). وهذه المناحة قالتها بنونة بت (إبنة) ألمك نمر رأس قبيلة الجعليين بمنطقة شندي والمتمة وهو صاحب التاريخ المعروف مع إسماعيل بن محمد علي باشا، قالتها في أخيها عمارة الذي توفاه الله على فراش المرض وهي ميتة سهلة ما كانت تريدها لإخيها وهو الفارس المغوار. كانت تتمنى لو أنّه مات في ساحة الوغى وتوشح بدمائه. تقول بنونة:



ماهو الفافنوس ماهو الغليد البوص

ود المك عريس خيلا بجن عركوس

أحيّ علي سيفه البحد الروس

ما دايرالك الميته أم رمادا شح

دايراك يوم لقى بدميك تتوشّح

الميت مسولب والعجاج يكتح

أحيّ علي سيفه البسوي التح



إن وردن بجيك في أول الواردات

مرنا مو نشيط إن قبّلن شاردات

أسد بيشه المكرمد قمزاته متطابقات

وبرضع في ضرايع العنّز الفاردات

كوفيتك الخوده أم عصا بولاد

ودرعك في أم لهيب زي الشمس وقّاد

وسيفك من سقايته إستعجب الحدّاد

وقارحك غير شكال ما بقربه الشدّاد



يا جرعة عقود السم

يا مقنع بنات جعل العزاز من جم

الخيل عركسن ما قال عدادهن كم

فرتاق حافلن ملاي سروجهن دم

الأرباب:
كتب الفنان المبدع الكبير / عبد الكريم الكابلي
إنّها تنفي عن الممدوح أن يكون متل ذلك النبات الرخو (الفافنوس) الذي ينمو على ضفاف النبل ويسهل قطعه وربما كانت الكلمة نوبية قديمة شأنها شأن أكثرية المسميات المتصلة بالنيل. ثم نفت عنه كذلك أن يكون كالقناة أو القصبة الجوفاء التي يسهل كسرها ثم أثبتت أنّه إبن المك بلا نقصان وأنّه عريس خيل وهو تعبير متعامل به بين العرب في جزيرتهم وأحيانا يقولون (إنّه أخو خيل) كناية عن الفروسية. يقول ألشاعر المعروف أحمد بك شوقي في رثائه للثائر عمر المختار: (بطل البداوة لم يكن يغزو على تنك ولم يك يركب الأجواء – لكن أخو خيل حمى صهواتها فأدار من أعرافها الهيجاء) وعركوس كلمة عربية فصيحة تفسرها المعاجم بالكثرة والتجمع. وعركست الخيل أي تجمّعت. وتواصل بنونة رسم صورها الرائعة فتبدي أسفها على تلك الميتة السهلة التي يكون فيها البكاء والعويل وتذري فيها النسوة الرماد على رؤوسهن وهو التفسير الذي أرجّحه على سواه، إذ أنّ البعض قد ذهب إلى رؤية أخرى. ثم تذكر بأنّ الممدوح في كل المعارك في موقف الهجوم أو الورود والضمير هنا (إن وردن) للخيل فهو في المقدمة أمّا في موقف الفر فهو المتأخر المتباطيء على الدوام، أمّا بيشة الواردة في النص فهي المنطقة المعروفة الآن بهذا الإسم في الجزيرة العربية وكانت مأسدة عرفت بضراوة سباعها. ونجد بعض الكلمات التي تتسم بالوضوح كالكوفية والخوده وهي الخوذة وبولاد هي فولاذ وقد قلبت الفاء باء، وربما كانت هي الأصل، وأم لهيب من أسماء الحرب وفي آخر مرثيتها تشبّه الممدوح بجرعة السم المركّز وأنّه الستر لكل فتيات قبيلة الجعليين وهي القبيلة التي اشتهرت بالعزّة والفروسية والتصدي للظلم والضيم. وهذا شرح موجز لهذه الأغنية الرائعة التي يمكن الإسترسال المسهب في إيحاءآتها المتعددة ولكننا محكومون بأكثر من متطلب للإيجاز. فقط أود أن أشير إلى ما درجت على ألإشارة إليه في العديد من محاضراتي عن تراثنا الحبيب وهو أن نحفظ الحق وأن نشيد بالدور الإبداعي للجهة التي يصدر عنها ومنها مثل هذا الإبداع التربوي الرائد الرائع وذلك قبل مناداتنا بأن نتعامل معه بوصفه التراث الملك المشاع الذي صدر منا جميعا لنتعامل معه وبه جميعا إذ ما أحوجنا إلى هذه القيم التي تجمعنا فنلتقي في جمالياتها، بعيدا عن العصبية.

الأرباب:
قالت بنونة بنت المك نمر

ماهو الفافنوس ماهو الغليد البوص
ود المك عريس خيلن بجن عركوس
أحى على سيفو البحز الروس


ما هو الفافنوس يعنى أنه ليس بالرجل الرخو اللين 000 وماهو الغليد البوص يعنى أنه ليس بالرجل الممتلئ شكلا وهو فارغ من الداخل مثل البوص وهو عود شبيه بالقنا 000 وود المك عريس خيلن بجن عركوس يعنى أنه هو ابن المك نمر ويأتى فى خيل مغيرة وهو فارسها


ما دايرالك الميته ام رمادا شح
دايراك يوم لقا بى دميك تتوشح
الميت مسولب والعجاج يكتح
أحى على سيفو البسوى التح


ما دايرالك الميته ام رمادا شح أى أننى لا أريد لك أن تموت على فراشك وتبكى عليك النساء وطبعا هناك عادة أن تضع النساء الرماد والتراب على رؤسهن عند البكاء على شخص عزيز،،، دايراك يوم لقا فى دميك تتوشح أى أحب أن تموت فى ساحة اللقاء والمعركة وأنت متوشح بالدماء 000الميت مسولب والعجاج يكتح أى هناك القتلى متناثرون فى الساحة ربما بدون ثيابهم وأسلحتهم 000 والوصف الي ذكرته يطابق الوصف الذي ذكره خالد بن الوليد قبل 1400 سنة حين قال "وها انذا اموت في فراشي كما يموت البعير" مع ملاحظة ان المرأة ريفية ولا تعلم شئ عن خالد بن الوليد


ان وردن بجيك فى اول الواردات
مرنن مو نشيط ان قبلن شاردات
أسد بيشه المكرمد قمزاتو متطابقات
برضع فى ضرايع العنز الفاردات


ان وردن بجيك فى اول الواردات أى أنه اذا كانت هناك غارة فهو يأتى فى أول الناس 000 مرنن مو نشيط ان قبلن شاردات أى أنه لا يسارع بالرجوع والفرار اذا فر الآخرون ورجعت الخيل 000أسد بيشه المكرمد قمزاتو متطابقات تشبهه بأسود وادى بيشه الذى كان فى منطقة الحجاز وبعض الناس يرجعونه الى مدينة بيشه فى جنوب السعودية 000 وهى تشبهه بذلك الأسد القانص فى بيشه وقمزاتو أى قفزاته 000 وبرضع فى ضرايع العنز الفاردات كناية عن أنه يستطيع أخذ أو أكل الأشياء الصعبة والعنز الفاردات هى الأغنام التى تفطم صغارها ولا تسمح لهم أبدا بعد ذلك بأن يرضعوا منها وهذا تشبيه بليغ للغاية 0 فأي بلاغة وأي حصافة امتلكت تلك المرأة


كوفيتك الخوده ام عصا بولاد
درعك فى ام لهيب زى الشمش وقاد
سيفك من سقايتو اتعجب الحداد
وقارحك غير شكال ما بقربوا الشداد


كوفيتك الخوذة ام عصا بولاد أى أن خوذته مصنوعة من الحديد الفولاذ وتنطق فى العامية السودانية بولاد 000ودرعك فى ام لهيب زى الشمش وقاد أم لهيب تقصد بها المعركة كما أظن وتوصف درعه بأنه مثل الشمس الساطعة 000 وسيفك من سقايته اتعجب الحداد أى أن سيفك من شدة قوته وحدته إستغرب له الحداد نفسه 000 واظن بمعنى تاني حين يعود الناس من المعركه كانت تؤخد السيوف للحداد لمعالجتها وتصليحها مره تانية فالحداد تعجب لانو سيفو سقيان (اي رويان) وطبعا رويان بالدم وهو وصف بليغ جدا جدا 000 وقارحك غير شكال ما بقربوا الشداد وهى هنا توصف حصان أخيها وتسميه بالقارح كناية عن حدة طبعه وقوته ولا يستطيع الشداد "أى من يجهزه للركوب" أن بقوم بذلك بدون أن شكال أى بدون حدوث مشاكل


يابقة عقود السم
يا مقنع بنات جعل العزاز منجم
الخيل عركسن ما قال عدادن كم
فرتاق حافلن ملاى سروجن دم


يا بقة عقود السم توصفه بجرعة السم ومثل هذه الأوصاف كثيرة جدا فى الشعر الشعبى السودانى عند القبائل العربية بالتحديد في مناطق ولاية نهر النيل 000 للدلالة على القوة000 ويا مقنع بنات جعل العزاز منجم أى من يحمى ويستر بنات الجعليين،،، والخيل عركسن ما قال عددان كم أى جاءت الخيل المغيرة فلم يسأل عن عددها ولم يكترث لذلك 000 وفرتاق حافلن ملاى سروجن دم أى أنه يشتتها ويفرتك تجمعها ويقتل من فيها وتمتلئ سروجها بالدماء

الأرباب:
لم يكن هذا الضرب من الحزن حكراً على قبيلة بعينها .. بل إنتشر في كل أنحاء السودان .. حيث أن الموت له هيبته وله طقوسه ..
لذا نجد برغم إختلاف الطقوس من قبيلة لقبيلة إلا أنهم إشتركوا في كيفية تخليد موتاهم .. بل بعضهم كان لايتمنوا الموته الساهلة وكذلك أهله .. وهذا رفعت شأنه ومكانته العلية بين قومه لذا تجدهم ينشدون الموت في ساحات المعكرة وتلك أمانيهم واشواقهم .. لذا إستحقوا الرثاء ..
أما بعضهم وهم كثر إستحقوا الرثاء لجودهم وكرمهم وحكمتهم التي عرفوا بها .. حيث كان يقصدهم الداني والقاصي ، بل عند موتهم يجلب الرماد من أماكن بعيدة خارج حدود قبيلتهم إمعاناً في التقدير ثم يزر على رؤس البواكي ، وتعدد مآثره في موكب مهيب ..
والأمثلة كثيرة جداً في شعرنا السوداني سوف نعرج عليها .. [ أمثال مرسية الشريف الهندي ، ومرسية شيخ البطاحين ، وعمدة كلي ...الخ ] ..
أما أعظم ماقيل في الرثاء فكان على لسان رقية بت حبوبة في رثاء شقيقها البطل ود حبوبة ، حيث نقلت لنا الصورة بدقة متناهية وجالت بنا في عالم ود حبوبة الخاص والعام لم تترك شاردة ولا واردة كما إنها وصفت صحبه الأبطال الذين صدقوا عند لقاء أسلحة المحتل النارية ، وذكر مكارمه وقوته وشجاعته .. وسوف نتناولها بعمق في مسيرتنا هذه ..

عباس واحمد انا والله شاكر لي مروركم