دعاء الإمام بعد الصلاة يعتبر دعاء مشروعاً دلت عليه الأحاديث والآثار النبوية ، ولكي تكون الصورة واضحة لنا تمام الوضوح ندرس هذا الدعاء من خلال أسسه الثلاثة التي يتكون منها وهي :
أ. رفع الإمام يديه
ب. دعاؤه بصيغة الجمع
ت. تأمين المأمومين على دعائه .
الأساس الأول : رفع الإمام يديه
يعتبر رفع الإمام يديه بعد الصلاة حين دعائه بالمأمومين رفعا مشروعا دلت عليه الأحاديث النبوية الشريفة
روى الطبراني عن محمد بن أبي يحيى قال : رأيت عبد الله بن الزبير ، ورأى رجلا رافعا يديه يدعو قبل أن يفرغ من صلاته ، فقال له : إن رسول الله لم يكن يرفع يديه حتى يفرغ من صلاته
. [ قال الحافظ الهيتمي : رجاله ثقات ( مجمع الزوائد 10/ 172 ) ] ، فهذا الحديث الصحيح يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الدعاء بعد أن يفرغ من صلاته ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان إمام المصلين .
أخرج الحافظ السيوطي في جزء سماه ( فض الوعاء عن أحاديث رفع اليدين في الدعاء ) ذكر فيه مائة حديث ، ومما ذكره ما رواه ابن أبي شيبة عن الأسود العامري عن أبيه قال : " صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما سلم انحرف ورفع يديه ودعا
قال الحافظ أبو الفضل عبد الله بن محمد الصديق الغماري : الأسود عبد الله بن الحاجب ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال الذهبي : محله الصدق وأبوه صحابي ( إتقان الصنعة ص 96 ط 97
الأساس الثاني : الدعاء بصيغة الجمع
يعتبر دعاء الإمام بعد الصلاة للمأمومين بصيغة الجمع دعاء مشروعا دلت عليه الأحاديث النبوية أحيانا بالصيغة العامة وأحيانا بالصيغة الخاصة .
بالصيغة العامة : جاء في صحيح الترمذي بسند حسن عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال " قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه : اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيينا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا . الترمذي ، العارضة 13/32 ] .
وهذا الحديث يدل على :
أ. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مواظبا في مجالسه المتعددة على الدعاء لأصحابه ، ويدخل في لفظ المجلس الوارد في الحديث المجلس الذي يكون بعد الصلاة ، فقد جاءت الأحاديث المتعددة التي تطلق كلمة ( المجلس ) على ما بعد الصلاة .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أحدكم إذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه ، والملائكة يصلون على أحدكم مادام في مجلسه الذي صلى فيه " [حديث صحيح ، سنن ابن ماجه 1/133 ، والحديث موجود في الصحيحين انظر اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ص 387 ].
وفي صحيح مسلم " كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس [ مسلم بشرح النووي 5/171
فهذان الحديثان يسميان ما بعد الصلاة مجلسا ، وحديث ابن عمر السابق يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يقوم من مجلس من مجالسه إلا ويدعو لأصحابه ، ولاشك أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصا في دعائه لغيره على مواطن استجابة الدعاء التي من أهمها مابعد الصلاة ، فقد سئل صلى الله عليه وسلم أي الدعاء أسمع ؟ قال : جوف الليل ودبر الصلوات المكتوبات[ حديث حسن ، نيل الأوطار 2/345 ] .
ولا يعقل أن يكون صلى الله عليه وسلم يدعو لأصحابه في مجالسه المتعددة حتى إذا جاء وقت القبول - وهو ما بعد الصلاة - امتنع من الدعاء لهم .
ب. . أن صيغة الجمع في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يدخل فيها الحاضرون من صحابته ؛ فقد أخرج ابن جرير والطبراني في السنن والحاكم وصححه عن جابر قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك . قلنا يا رسول الله : تخاف علينا وقد آمنا بك . فقال : إن قلب بني آدم بين أصبعين من أصابع الله عز وجل فإذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أن يزيغه أزاغه " [ الدر المنثور في التفسير بالمأثور 2/10] .
والشاهد أن الصحابة كانوا يفهمون من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الجمع أنه يقصدهم ولهذا قالوا في هذا الحديث بعد أن دعا بصيغة الجمع : ( تخاف علينا وقد آمنا بك (
بالصيغة الخاصة : فهمنا من الحديثين السابقين ؛ حديث ابن عمر وحديث جابر :
أ. أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لأصحابه بعد الصلاة من خلال تحليلنا للفظ العام في حديث ابن عمر .
ب. أن الصحابة كانوا يفهمون من دعائه بصيغة الجمع أنه كان يقصدهم ويشملهم ، وقد جاء التصريح بأن النبي صلى الله عليه سلم كان يدعو بصيغة الجمع بعد صلاته ( أي يدعو لأصحابه المأمومين ) ،
فقد أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قضي صلاته : " اللهم إني اسألم بحق السائلين عليك ، فإن للسائلين عليك حقا ، أيما عبد أو أمة من أهل البر والبحر تقبلت دعوتهم واستجبت دعاؤهم أن تشركنا في صالح ما يدعونك به ، وأن تعافينا وإياهم ، وأن تقبل منا ومنهم ، وأن تتجاوز عنا وعنهم بأنا آمنا بما أنرلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين " [ الدر المنثور 2/40 ] ، وهذا الحديث يدل على :
أ. صحة التحليل لحديث ابن عمر السابق ، وصحة الاستنتاج منه بأنه صلى الله عليه سلم كان يدعو لأصحابه بعد الصلاة .
ب. التشريع للأئمة بالدعاء للمأمومين .
ت. جواز الدعاء بالقبول بعد الصلاة ، وجواز الدعاء بالقبول بعد تمام العمل وراد في القرآن ، قال سيدنا ابراهيم بعد إتمامه عمل البناء ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) ، وقد جاء الأمر الإلهي لرسول الله صلى الله عليه سلم ولأمته بالإقتداء بسيدنا ابراهيم في قوله ( وتلك حجتنا آتيناها ابراهيم على قومه ) إلى أن قال : ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) [ الانعام : 83-90 ] .
الأساس الثالث : تأمين المأمومين على الدعاء :
عن حبيب بن مسلمة الفهري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يجتمع ملأ فيدعو بعضهم ويؤمن سائرهم ( أي يقول آمين ) إلا أجابهم الله " [ رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة ، وهو حسن الحديث . مجمع الزوائد 10/173
] ويؤخذ من هذا الحديث :
أ. أن الدعاء الجماعي دعاء مقبول ، وأن التأمين عليه سبب في الإستجابة ، وهو ما دل عليه أيضا الحديث الشريف الصحيح : " ما رفع قوم أكفهم إلى الله عز وجل يسألونه شيئا إلا كان حقا على الله أن يضع في أيديهم الذي سألوا " [ رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ، مجمع الزوائد 10/172 ، باب ماجاء في الاشارة في الدعاء ورفع اليدين ]
ب. أنه يدعو إلى مادعت إليه الاية الكريمة الآتية من الترغيب في الدعاء الجماعي ، ومن التبشير باستجابته : ( وقال موسى ربنا إنك آيتي فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ، ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما ) [ يونس : 88 ] ، فهذه الاية بدأت بالدلالة على ان الداعي فرد واحد ( وقال موسى ) ، وختمت بأن الداعي شخصان ( أجيبت دعوتكما ) ، لأنه كما قال عكرمة رضي الله عنه كان موسى عليه السلام يدعو ، ويؤمن هارون ، فذلك قوله ( أجيبت دعوتكما ) [ الدر المنثور في التفسير بالمأثور 3/341 ] ، وكان هارون عليه السلام حريصا على الدعاء الجماعي ، قال أبو هيرية وابن عباس رضي الله عنهما : ( كان موسى إذا دعا أمن هاورن على دعائه ، يقول آمين ) [ المرجع السابق ] ، وهذا يدل على :
أ. أن الصحابة كانوا مطالبين شرعا بالتأمين على دعاء الرسول صلى الله عليه سلم حين كان يدعو لهم بعد الصلاة ، لأن الله تعالى يقول عن موسى وهارون وغيرهما من الأنبياء والمرسلين كنوح وإبراهيم وسليمان ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) [ الانعام:90] ، والصحابة رضي الله عنهم مدركون لدلالة هذه الآية ، وأنهم مطالبون بالإقتداء بالأنبياء السابقين فيما لايخالف الشريعة الاسلامية :
أخرج ابن أبي شيبة والبخاري عن العوام قال : سألت مجاهدا عن سجدة (ص) ، فقال : سألت ابن عباس من أين سجدت - أي ما دليلك على السجود فيها - ، فقال : أو ما تقرؤون : " ومن ذريته داود وسليمان وايوب ويوسف وموسى هارون " إلى قوله : ( أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده ) ، فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به ، فسجد بها داود عليه السلام فسجدها رسول الله صلى الله عليه سلم . [ الدر المنثور 5/336 ] .
ب. أن الحرص على دعاء المقبولين منهج إسلامي عمل به المرسلون أولا ، ثم عمل به الصحابة والتابعون من بعد :
أخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب وابن أبي حاتم عن أنس رضي الله عنه أن ثابتا قال له : إن أخوانك يحبون أن تدعو لهم ، فقال : اللهم آتنا في الدنيا حسنة في الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . [ الدر المنثور 1/242 ] وجاء في الحلية للحافظ أبي نعيم أن عمر بن عبد العزيز جلس إلى قاص العامة بعد الصلاة ، وكان يرفع يديه إذا دعا [ الحلية 5/277 ] ، أي يرفع يديه إذا دعا بهم دعاء جماعيا .
وآخر دوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه في كل وقت وحين .
المصدر / مجلة الأسوة الحسنة - العدد 19 السنة السادسة .
وماتنسوني من صالح الدعاء
ودمتم بالف خير ...