لقب زين العابدين ينبىء عن شخصيته،فقدكان عابداحسن العبادة كثير السجود والقنوت لله ،كان اذا صلى استغرق فى صلاته حتى لايشعر بشىء الا أنه فى حضرة الحق سبحانه وتعالى،الى درجة أن النار اشتعلت فى البيت الذى هو ساجد فيه، فما أحس بذلك، وأطفأها الناس وما انتبه لذلك، حتى انتهى من صلاته فأخبروه فقال: لقد ألهتنى عنها النار الكبرى .
ويطلق عليه ابن الخيرتين ، وسبب ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فيما روى " لله من عباده خيرتان، فخيرته من العرب قريش ، وخيرته من العرب قوم من فارس"وزين العابدين قرشى الأب وفارسى الأم،
أبوه الحسين بن على بن أبى طالب وأمه سلافة ولقبها الفارسى شاة زنان ومعناها ملكة النساء، وهى بنت يزدجرد بن أنوشروان العادل كسرى الفرس،
ذكر الزمخشرى فى كتابه"ربيع الأبرار"
أنه لما أتىبسبى فارس فى خلافة عمر رضى الله عنه كان فيهم ثلاث بنات ليزدجرد، فباعوا السبايا وأمر ببيع هؤلاء البنات
فقال على كرم الله وجه: ان بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهن
فقال عمر : كيف العمل فيهن؟
قال : يقومن ومهما بلغ ثمنهن قام به من يختارهن، فقومن فأخذ على بن أبى طالب كرم الله وجه واحدة فأعطاها لابنه الحسين فولدت له عليا زين العابدين،
وأخذ الثانية عمرفأعطاها لابنه عبدالله فولدت له سالماوأخذ الثالثة محمد بن أبى بكر رضى الله عنه فولدت له القاسم،
وكان هؤلاء الثلاثة أولاد خالات وزينة عصرهم علما وفقها وورعا وتقوى
ولد الامام زين العابدين فى ظل البيت الهاشمى الرحيب الذى يموج بالعلم والفضل ، والهدى و الحكمة ، فقد بلغ من العلم والتقى والحكمة منزلة عليا حتى كان جديرا بقول القائل :
ينشق نور الدجى عن نور غرته
كالشمس تنجاب عن أشراقها الظلم
من معشر حبهم دين وبغضهمو
كفر وقربوهمو منجى ومعتصم
هذا ابن خير عباد الله كلهمو
هذا التقى النقى الطاهر العلم
أول المحن التى شاهدها
لم يع موقعة صفين التى خاضها جده فقد كان صغيرا ولم يع مصرعه، ولكنه شهد وفاة عمه الحسن رضى الله عنه جيدا وحزن عليه ، كما شهد موقعة كربلاء الدامية، ولكنه كان مريضا لايقوى على الحركة ملازما للفراش ورآه شمر بن ذى الجوش أحد قادة جيش ابن زياد فقال : اقتلوا هذا الغلام، فقال له رجل:سبحان الله أنقتل فتى حدثا مريضا لم يقاتل ؟
وجاء عمر بن سعد بن أبى وقاص فقال : لا تعرضوا لهؤلاء النسوة ولا لهذا المريض،
قال على بن الحسين : فغيبنى رجل منهم وأكرم نزلى واختصنى،
وجعل يبكى كلما خرج ودخل حتى قلت : ان يكن عند أحد من الناس خير ووفاء فعند هذا الرجل ، الى أن نادى منادى ابن زياد : ألامن وجد عنده على بن الحسين فليأت به وله فيه ثلثمائه درهم،
قال : فدخل على وهو يبكى وجعل يربط يدى الى عنقى وهو يقول :أخاف ، فأخرجنى اليهم مربوطا حتى دفعنى اليهم وأخذ الثلثمائة درهم وأنا انظر اليها ، ثم أخذت الى ابن زياد فقال : ما أسمك؟
قلت : على بن الحسين.
قال : أولم يقتل الله على بن الحسين؟
قال : قلت : كان لى أخ أكبر منى قتله الناس
قال بن زياد : بل قتله الله.
فقلت : الله يتوفى الأنفس حين موتها
فصاحت عمته زينب رضى الله عنها قائلة : يا بن زياد حسبك ما أرقت من دمائنا أسألك بالله ان قتلته الا قتلتنى معه.
عجبا للناس الذين يستعبدهم حب المال!.
فهذا الرجل الذى كان يظهر العطف على زين العابدين، و يبكى اشفاقا عليه ، يفتضح أمره أمام المال، وينهار اشفاقه حين يرى الثلثمائة درهم تبذل فى رجل من سادة آل البيت .
هذه القصة تشير الى أن عليا لم يكن طفلا صغيرا حين وقعت مذبحة كربلاء ، ولكنه كان غلاما كبيرا الا أنه كان مريضا لا يقوى على الحركة ،ولو كان معافى لقاتل كما قاتل أبوه واخوته وأعمامه وأبناء عمومته وأنصارهم الذين أبلوا البلاء الحسن ،
وقيل أن سنه كانت احدى وعشرين سنة ولكن شدة المرض أظهرته صغيرا، ويبدوا أن هذا الرجل وجده مريضا طريح الفراش فحنا عليه وضمه اليه ليحفظه،
ولكن الدراهم أسالت لعابه وأظهرت حقيقته ومعدنه، وقد يكون اظهار العطف من باب التمثيل الذى يلجأ اليه البعض ،
ولكن بعض الرواة يذكرون أن عليا كان صغيرا فعلا فى كربلاء
فانهم قد رووا أن ابن زياد قال : انظروا اليه ان كان قد أدرك فاقتلوه،
فنظروا اليه فاذا هو قد أدرك فأمر بقتله ، ولكن عمته دافعت عنه،
فقال ابن زياد : اتركوه لها.
وعلى أى فقد عصم الله تعالى عليا من القتل فى كربلاء بالمرض، كما حفظه من القتل عند ابن زياد الطاغية بدفاع عمته عنه ، وعصمه أيضا من القتل مرة ثالثة حين وصل الى يزيد بن معاوية فى الشام ، وما ذلك الا ليدخره تعالى لمهمة كبرى وهى الحفاظ على نسل النبوة ،
والابقاء على العترة الطيبة من الانقراض ، فقد استشهد فى هذه الموقعة كما علمنا مع الامام الحسين اخوته جميعا وأولاده ما عدا عليا ، وعلى الرغم من مرض على فانه لم يجبن فى مجلس ابن زياد وأسكته ورد عليه،
ولما وصل الركب الى الشام بعد سفر شاق ومضن وكان على – على مرضه- قد غل بغل ، وأدخلوه على يزيد ، فقال لعلى : يا على ابوك قطع رحمى وجهل حقى ونازعنى سلطانى فصنع الله به ما رأيت.
فرد عليه على قائلا فى ايمان وشجاعة ( ما أصاب من مصيبة فى الأرض ولا فى أنفسكم الا فى كتاب من قبل أن نبرأها ))
فقال يزيد لابنه خالد : أجب ، فما درى بماذا يجيب ،
فقال له يزيد : قل له (و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير))
وقام رجل من أهل الشام وقال ليزيد : هؤلاء أسرى لنا،
فقال على رضى الله عنه : كذبت ولؤمت ما ذاك لك الا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا،
وقيل أن هذا الرد كان من السيدة زينب رضى الله عنها متوجهة به الى يزيد نفسه حين قال الشامى ذلك ، فقالت السيدة زينب :
كذبت ولؤمت ما ذاك لك الا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير شريعتنا.
وقال بن كثير فى البداية و النهاية : لقد هم ابن زياد بقتل على بن الحسين ثم صرفه الله عنه ، وأشار بعض الناس على يزيد بن معاوية بقتله أيضا فمنعه الله منه.
ثم بدل الله حال يزيد فصار يكرمه ويعظمه ويجالسه.
أثر هذه المحنة على زين العابدين
جاء فى كتاب "سيرة آل البيت" : لقد رأى زين العابدين مصارع أبيه واخوته وأعمامه وأولاد عمه وفجع فيهم كلهم فى غداة واحدة ،
وترك ذلك فى نفسه أثرا لا يمحى ، فكان دائم الحزن ، سريع الدمع ساهما، يغشى عليه كثيرا ،لا يكف عن البكاء ، فسأل عن كثرة بكائه فقال : ان يعقوب عليه السلام بكى حتى أبيضت عيناه من الحزن على يوسف ، ولم يعلم انه مات، وانى رأيت بضع عشرة من أهل بيتى يقتلون فى غداة واحدة ، أفترون حزنهم يذهب عن قلبى أبدا.
والذى زاده حزنا أنه لم يستطع يومئذ أن يشارك فى بلاء هذا اليوم
فما كانت به قوة تعينه على حمل سيف أو رمح ، كان طريح الفراش لا يقدر على الحركة ، وربما لو كان شارك لعزى نفسه بأنه جاهد ، ولكن المرض حال بينه وبين ذلك.
ولقد أحزنه أكثر وأكثر انتهاك حرمات الله بهذه الصورة الفظيعة ،فقد تعرض أبوه والقلة التى معه وهم لا يتجاوزون السبعين الا قليلا لسهام ورماح وسيوف أربعة آلاف مقاتل تنهمر عليهم السهام كالمطر من كل جانب ، ورأى اهله يقتلون بدون مبالاة ، يتكاثرون عليهم كأنهم ليسوا من المسلمين ؟
وكأنهم لا يمتون الى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدنى صلة، وهو الذى جاء بهذا الدين الحنيف الذى يدعو الى الرحمة ويحذر من العنف والبغى والاعتداء ، قال تعالى (( وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين ))
ويزعم هؤلاء المعتدون أنهم ينتمون الى هذا الدين ويؤمنون برسول رب العالمين، والذى يوصى بأهل بيته خيرا،
أبهذه السهولة تزهق أرواح المسلمين بل الصديقين من عترة النبى الأمين ؟! ان ازهاق الروح أمر خطير بالنسبة لغير المسلم الذى أمر الدين بألا يقاتل الا اذا أنذر، فمابالك بالمسلم ؟
وما بالك بأقرب الناس الى رسول اله صلى الله عليه وسلم؟
ومابالك بأن الذى أعلنت عليه الحرب الضروس هو ريحانة رسول الله وسيد شباب أهل الجنة وسبط الرسول ؟
وأحزن الامام زين العابدين أيضا انصراف الناس عن المثل العليا التى جاء هذا الدين ليقيمها ويعلى شأنها ويرفع لوائها، فاذا هم يجرون وراء بريق المال والسلطان وزيف الحياة وزخرفها الزائل،
أليس هذا ما يحزن العاقل ويغضب الحليم ؟
عن المنهال بن عمرو قال : دخلت على على بن الحسين رضى الله عنهما فقلت له : كيف اصبحت أصلحك الله؟
فقال : ما كنت أرى شيخا من أهل المصر مثلك لا يدرى كيف أصبحنا، فأما اذا لم تدر أو تعلم فسأخبرك : أصبحنا فى شدة وبأس بعد قتلنا وتشريدنا.
ان قريشا تعد أن لها الفضل على العرب لأن محمدا صلى الله عليه وسلم منها ، لا يعد لها الفضل الا به ، والعرب مقرة لهم بذلك.
والعرب تعد أن لها الفضل على العجم لأن محمداصلى الله عليه وسلم منها لايعد لها الفضل الا به.
فلئن كانت العرب صدقت أن لها الفضل على العجم ، وصدقت قريش ان لها الفضل على العرب لأن محمدا صلى الله عليه وسلم منهم ،
فان لنا آل البيت الفضل على قريش لأن محمدا صلى الله عليه وسلم منا، وبالرغم من ذلك فقد اصبح الناس لا يعرفون لنا حقا، فهكذا أصبحنا اذ لم تعلم كيف اصبحنا.
لقد وصف زين العابدين حاله وحال آل البيت أصدق وصف فما باله لا يملؤه الحزن والأسى على ما وصل اليه أمر أهله ؟
كيف تغلب على المحنة
لقد تغلب عليها بالصبر والاحتساب والاعتصام بالله ، وهذا أعظم سلاح يقهر المصاعب والمحن، وقد دعالله تعالى نبيه وحبيبه حين حزن على عمه حمزة رضى الله عنه فى أحد الى الصبر وقال له تعالى (( واصبر وما صبرك الا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك فى ضيق مما يمكرون (127) ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون(128) -))
كان رضى الله عنه قمة فى الصبر والاحتساب ، لقد احتسب كل ما اصيب به عند الله تعالى ولجأ اليه فى محنته فاعقبه الله صبرا جميلا، وكان يقول : ما اصيب امرؤ فجعل كلما تذكر مصيبته قال : انا لله وانا اليه راجعون الا اعقبه الله من الأجر مثلما اعقبه يوم مصيبته.
ولم يتحل هو وحده بالصبر بل كان يوصى أهله بذلك كما أوصى لقمان ابنه بقوله :
((واصبر على ما أصابك ان ذلك من عزم الأمور))
حدث العتبى قال : حدثنى أبى قال : قال على بن الحسين وكان من أفضل بنى هاشم : يا بنى أصبر على النوائب ولاتتعرض للحقوق ولا تخيب أخاك الا فى الأمر الذى مضرته عليك أكثر من منفعته لك .
وروى الطبرانى باسناده عنه أنه كان جالسا فى جماعة فسمع داعية فى بيته فنهض فدخل منزله ثم رجع الى مجلسه
فقيل له : أمن حدث كانت الداعية ؟
قال : نعم ، فعزوه وتعجبوا من صبره.
ومن أقواله المأثورة : انا أهل البيت نطيع الله فيما نحبه ونحمده على ما نكره .
وكان كثيرا ما يتعرض زين العابدين لذلك-فكان يغض الطرف عن ذلك، ويغلق السمع عما يؤذيه ومن أقواله فى ذلك :ما تجرعت جرعة أحب الى من جرعة غيظ أعقبها صبر ، وما أحب أن يكون لى بذلك حمر النعم.
وكان يصبر على الطاعة صبرا جميلا، فقد قيل : أنه كان يصلى أحيانا فى اليوم والليلة ألف ركعة ،
ولقائل يقول : وكيف له ذلك؟
وأين الوقت الذى يتسع لذلك ؟
والاجابة لا يدركها قصار النظر المفتونون بالدنيا ، الواقفون عند حدود المحسوسات ولا يدرون أن الله يبارك لهؤلاء القوم فى أوقاتهم حتى ينجزوا فى الوقت القصير العمل الكثير .
وما ظنك بمن يقرأ القرأن فى يومه أو بعض يومه ومن يقرأ القرآن كله فى صلاته،
ان هناك قصصا كثيرة تروى فى ذلك ولا مطعن فيها لأن ذلك من قبيل الكرامات الى يمنحها الله لمن يشاء من عباده ومن هذه القصص قصته مع الخضر.
ما يرويه أبو نعيم الأصفهانى فى كتابه ( حلية الأولياء) عن أبى حمزة الثمالى
قال : أتيت باب على بن الحسين فكرهت أن اضرب الباب،
فقعدت حتى خرج فسلمت عليه ودعوت له، فرد على السلام ودعا لى،
ثم انتهى الى حائط له فقال : يا أبا حمزة، أترى الحائط
قلت : بلى يا بن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : فأنا اتكأت عليه يوما وأنا حزين ، فاذا رجل حسن الوجه، حسن الثياب، ينظر فى تجاه وجهى
ثم قال : يا على بن الحسين ، مالى أراك كئيبا حزينا ؟ أعلى الدنيا ؟
فهو رزق حاضر يأكل منه البر والفاجر.
فقلت : ما عليها احزن لأنها كما تقول
فقال : اعلى الآخرة؟ هو وعد صادق يحكم فيها ملك قاهر.
قلت: ما على هذا أحزن لأنها كما تقول
فقال : وما حزنك يا بن الحسين ؟
قلت : ما اتخوف من فتنة على المسلمين.
فقال لى : يا على هل رأيت أحدا سأل الله فلم يعطه؟
قلت : لا
ثم قال: هل رأيت أحدا خاف الله فلم يكفه ؟
قلت : لا
ثم غاب عنى ، فقيل لى يا على هذا الذى ناجاك هو العبد الصالح الذى جعله الله من آياته
قال كثير من العلماء : ان الله يظهره لمن يشاء من خلقه .
محنة فى خلافة عبد الملك
بعدما تولى عبد الملك بن مروان الخلافة أراد أن يستوثق لنفسه ، وقد رأينا كيف كان موقفه من الامام
محمد بن الحنفية ، ثم أمر بعد ذلك أن يساق اليه على بن الحسين رضى الله عنهما
قال بن شهاب الزهرى : شهدت على بن الحسين يوم حمل الى عبد الملك بن مروان من المدينة الى الشام
وقد وكل به حرس، فأستأذنتهم فى السلام عليه وتوديعه فأذنوا لى .
قال : فدخلت عليه وهو فى قبة فبكيت ، وقلت : وددت أنى مكانك وأنت سالم
فقال : يا زهرى، أتظن ان ذلك يكربنى؟ اننى بعون الله ومشيئته لو شئت أن لا يكون ذلك ماكان
ثم قال: يا زهرى لا زلت معهم على ذا منزلتين من المدينة
قال الزهرى : فما لبثنا الا أربع ليال حتى قدم الموكلون به يطلبونه بالمدينة فما وجدوه،
فكنت فيمن سألهم عنه، فقال لى بعضهم :انا لنراه متبوعا، انه لنازل ونحن حوله لا ننام نرصده
واذ أصبحنا فما وجدناه فى محمله،
قال الزهرى : فقدمت بعد ذلك على عبد الملك بن مروان فسألنى عن على بن الحسين ، فأخبرته الخبر
فقال لى : انه قد جائنى يوم فقده الأعوان، فدخل على فقال : ما أنا وأنت ؟
فقلت له : أقم عندى
فقال : لا احب ، ثم خرج ، والله لقد امتلأ ثوبى منه هيبة
قال الزهرى :فقلت يا أمير المؤمنين ، ليس على بن الحسين حيث تظن، انه مشغول بنفسه
فقال : حبذا شغل مثله ، فنعم ما شغل به!
قال الراوى : وكان الزهرى اذا ذكر على بن الحسين يبكى ويقول : زين العابدين .
فانظر كيف امتلأ قلب عبد الملك بن مروان خوفا منه وهو الأعزل الذى لا سلاح معه ولكنه
مسلح بأعتى سلاح وأعظم قوة وهى الايمان بالله عز وجل.
ان انشغال بن الحسين رضى الله عنه كان بالله وعبادته فكان كفاء ذلك أن رزقه الله هيبة الخلفاء والناس له.
يروى الرواة عن عبد الملك بن مروان أنه كان قبل الخلافة كثير قراءة القرآن، وأنه الوحيد من بنى أمية الذى كان حليف للمسجد ، فلما ابتلى بالخلافة وجره أبوه اليها جرا، أطبق المصحف وودعه، فكيف لا يمتلىء فرقا وهيبه من على بن الحسين الذى طويت له الأرض فخطا خطوة فاذا هو بالشام فكيف لا يرتجف منه بن مروان ؟
لقد كان عبد الملك مشغولا بالفانى ولكن عليا كان مشغولا بالباقى،
فما ابعد الفرق بينهما ! وشتان ما بين الرجلين !
الابتلاء بالحسد
وابتلى زين العابدين بما ابتلى به أهل البيت جميعا ، ابتلى بالحسد ، والحسد من اعظم الأدواء التى لا علاج لها
وممن ابتلى بذلك ؟
من أبناء عمه الأمويين ، وهو ابتلاء قديم مذ عهد النبى صلى الله عليه وسلم، بل من قبله على عهد الأجداد
فقد حسدوا هاشما على اطعامه الطعام ولم يقدروا على مجاراته بذلك،
وحسدوا عبد المطلب على أن فجر الله له زمزم بعد اطماسها وأصبحت له سقاية الحجيج من غير منازع،
وحسدوا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن جائته النبوة،
وعادوا وحاربوه من أجل ذلك، وتولى أبو سفيان بن حرب قيادة الجيوش التى تحارب الاسلام،
مع تيقنه من صدق الرسالة المحمدية، بعد أن سمع بأذنيه من قيصر الروم أن النبى صلى الله عليه وسلم سيملك
ما تحت قدميه، وقال ابو سفيان يومها قولته المشهورة :لقد أمر أمر ابن ابى كبشة،
( كنية كان الكفار يطلقونها على النبى صلى الله عليه وسلم تهكما )
وأخيرا من الله عليه بالاسلام، ولكنه جاء متأخرا يوم فتح مكة، هو وأبنه معاوية رضى الله عنه
ومن هؤلاء الحسدة كذلك الحكم والد مروان ، الذى أسلم ولكن النبى صلى الله عليه وسلم نفاه من المدينة لأنه كان يستهزىء به صلى الله عليه وسلم ويتنصت عليه ،
فكان يقال له طريد النبى ، ولم يستطع دخول المدينة فى عهد أبى بكر وعمر رضى الله عنهما،
ولكن دخلها فى عهد عثمان رضى الله عنه،
وابنه مروان هو الذى افسد الأمر على عثمان رضى الله عنه حتى أدى ذلك الى محاصرته واغتياله،
وما اصاب الامام على رضى الله عنه وولديه ما اصابهم الا بدافع الحسد الذى لا يشفى منه صاحبه ما دام المحسود سليما معافى، ولا يكف الحاسد عن حسده حتى يهلك المحسود.
كل العداوة قد ترجى برائتها
الا عداوة من عاداك عن حسد
حج هشام بن عبد الملك بن مروان الأموى ، وهو ولى للعهد وحاول الوصول الى الحجر الأسعد ليستلمه فلم يقدر من شدة الزحام، فوضع له كرسى وجلس عليه ريثما يخف الزحام فيستلمه، وحوله أهل الشام،
وجاء الامام زين العابدين يستلم الحجر فاذا بالناس جميعا يفسحون له المكان احتراما له وحبا وتقديرا.
فقال أهل الشام تعجبا : من ذلك الذى افسح له الناس الطريق فاستلم الحجر دون اذى أو تزاحم ؟
فقال هشام : لا أعرفه ( وكان يعرفه)
وكان الفرزدق الشاعر حاضرا فى هذا الوقف فبادر يقول :
هذا الذى تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم
هذا التقى النقى الطاهر العلم
هذا ابن فاطمة ان كنت جاهله
بجده أنبياء الله قد ختموا
وليس قولك من هذا بضائره
العرب تعرف من أنكرت والعجم
اذا رأته قريش قال قائلها
الى مكارم هذا ينتهى الكرم
بغضى حياء وبغضى من مهابته
فما يكلم الا حين يبتسم
الله شرفه قدما وعظمه
جرى بذلك له فى لوحة القلم
من يشكر الله يشكر أولية ذا
فالدين من بيت هذا ناله الأمم
فغضب هشام على الفرزدق وحبسه فى مكان بين مكة والمدينة اسمه ( عسفان) ولكنه لم يعتذر بل أرسل هجاء من سجنه لهشام يقول فيه :
أيحبسنى بين المدينة والتى
اليها قلوب الناس يهوى منيبها
يقلب راسا لم يكن راس سيد
وعين له حولاء باد عيوبها
فبلغ هشاما هذا الشعر فاطلقه خوفا من لسانه،
فانظر كيف لم ترفع هشاما سلطته ولا ولايته للعهد كمارفعت عليا رضى الله عنه
خشيته لربه ونسبته الى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ولم يخش الفرزدق من هشام على الرغم من أن الشاعر احيانا يهتم بالمال ويتكسب من شعره
الا أنه رفض مالا ارسله اليه زين العابدين وقال : والله ما قلت ما قلت الا لله وحده وقياما
بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذريته.
ابتلائه بشيعته
ومن الشيعة من كان يبالغ فى تشيعه لآل البيت الى درجة تتنافى مع أحكام الاسلام وآدابه،
وهذه كانت تثير زين العابدين فيقول لهم :يا أيها الناس احبونا حب الاسلام، فما برح بنا حبكم حتى صار علينا عبئا.
وفى رواية أخرى :أحبونا حب الاسلام فوالله ما زال بنا ما تقولون حتى بغضتمونا الى الناس.
روى القرطبى فى تفسيره أن جماعة من الشيعة جاءوا اليه ونالوا من بعض الصحابة رضى الله عنهم
فقال لهم : هل أنتم من السابقين الأولين الذى قال الله فيهم
((للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون )) ؟
قالوا : لا
قال : فهل أنتم من الذين قال الله فيهم
(( والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر اليهم ولا يجدون فى صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون )) ؟
قالوا : لا
قال وأنااشهد أنكم لستم ممن قال الله فيهم
((والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان و لا تجعل فى قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا انك رءوف رحيم ))
ثم طردهم وحذرهم من ان يسيئوا الى أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذا هو على بن الحسين بن على رضوان الله عليه ، وهذه هى همومه وأحزانه
انها تدور حول مااصاب أهله من ابتلائات على يد أبناء عمومتهم حرصا على دنيا
زائلة ومتاع فان وحكم بائد، مع ان الحكم ليس من حقهم، ولكنه حق من نزعوه
منهم واستأثروا به دونهم،
وقد ترك رضى الله عنه ذرية طيبة مباركة حيث كان له سبعة عشر ولدا
عشرة ذكور وسبع اناث
ولم يخل أبنائه من الابتلاء فهى ذرية بعضها من بعض وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم
حيث قال (( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل))
وتوفى رضى الله عنه سنة أربع وتسعين بالمدينة ودفن بالبقيع.
أهم المراجع
(1) زين العابدين د/ عبد الحليم محمود
(2) البداية والنهاية لابن كثير
(3) آل البيت أ.د حمزة النشرتى
(4) حلية الأولياء أبو نعيم الأصفهانى
(5) الطبقات الكبرى لابن سعد
(6) ابتلاءات آل البيت الشيخ عبد الحفيظ فرغلى.
ودمتم بالف خير...