ربنا يصلحك اخي محمد الدرديري وكل الدعوات لك بالتوفيق ...
وهذه اضافة في حق هذا الرجل الامام :
انتشر مذهب الإمام مالك ابن انس في مشرق البلاد الإسلامية ومغربها بل يكاد يكون مذهب ما يطلق عليه الغرب الإسلامي والذي يمتد من مصر والسودان مرورا بليبيا وتواصلا إلى تونس (افريقية) وما وراءها الجزائر والمغرب وشبه الجزيرة الخضراء (الأندلس) وكذلك كل غرب إفريقيا وأفريقيا ما وراء الصحراء فضلا عن بلاد الحجاز والخليج وغير ذلك من بلاد الإسلام الواسعة. تكاد تكون هذه الساحة في اغلبها مالكية أي إتباع الإمام مالك بن انس رضي الله عنه الملقب بإمام دار الهجرة (المدينة المنورة) تلك المدينة التي فيها ولد ونشا وتعلم إلى أن تبحر ولم يغادرها إلا لأداء فريضة الحج حيث دعا الله تبارك وتعالى أن يميته فيها (المدينة) التي أحبها أكثر من أي مكان آخر. وحبه للمدينة المنورة إنما تأتى من تعلقه الكبير وحبه الشديد لساكنها وصاحبها سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فالمدينة هي التي اختارها الله له عندما أخرجه قومه من مكة، والمدينة هي التي دعا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسكنه فيها (اللهم كما أخرجتني من أحب البلاد فاسكني أحب البلاد إليك) والمدينة هي التي طمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار بان الممات سيكون فيها حين قال لهم يوم أن فتح الله عليه مكة المكرمة وقد خشوا أن يستقر فيها قال لهم (المحيا محياكم والممات مماتكم). المدينة المنورة هي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الآمن وهي مرقده ومنها يبعث عليه الصلاة والسلام. والمدينة هي التي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهلها بالبركة، إنها حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأرز إليها الإيمان قبل قيام الساعة كما تأرز الحية إلى جحرها، والمدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد، والمدينة لا يدخلها الدجال (والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون). وكل تلك خصوصيات خص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة، طيبة الغراء، مهبط الوحي ومثوى الإيمان ومسكن خير خلق الله رسول الله عليه الصلاة والسلام.
أجواء المدينة وأثرها على الإمام مالك.
في المدينة المنورة ولد الإمام مالك وفي أجوائها الروحانية الطاهرة المشرقة نشأ وترعرع، وسط العلم والتقوى والخير والبركة والصلاح والفلاح والجوار لسيد الثقلين صاحب المواجهة وصاحب الروضة عليه الصلاة والسلام والذي يقول (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) هناك في المدينة المنورة، وهناك في المسجد النبوي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى مسجده ومدينته تشد الرحال وعليه تسلم الجموع المسلمة الآتية من كل صوب وحدب إلى قيام الساعة، تتشرف بالوقوف بين يديه والسلام عليه وعلى صاحبيه والتوجه إلى الله تبارك وتعالى بأخلص الدعوات وأصدقها وأخشعها فيستجيب الله وكيف لا يجيب الله من دعاه وتوجه إليه متوسلا إليه بأحب الخلق إليه سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. في أجواء المدينة الطاهرة نشأ الإمام مالك بن انس رضي الله عنه حيث حفظ القرآن ووجهته أمه (العالية بنت شريك) وهي من النساء الصالحات العالمات إلى الارتواء من معين الحديث النبوي الشريف والسنة الطاهرة، والمدينة هي الملاذ وكان أستاذه الأول (ربيعة الرأي) الذي لازمه إلى أن توفي وكان ربيعة من كبار علماء عصره. وتلقى مالك رضي الله عنه عن غير ربيعة من أمثال أبي بكر عبد الله بن يزيد المعروف بهرمز وسعيد بن المسيب وعروة والقاسم وأبو سلمة.
مالك وشهادات العلماء فيه
ولقد كان الإمام مالك رحمه الله يدقق ويحقق ويصبر على طلب العلم وتحصيله. كان يقول (إن هذا العلم دين فانظروا عن من تأخذون دينكم ولقد أدركت سبعين ممن كانوا يقولون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أخذت عنهم شيئا) شهد بعلم الإمام مالك وفضله من جاء بعده من العلماء ومن عاصروه.
* قال في حقه الإمام الشافعي رضي الله عنه (إذا جاءك الحديث عن مالك فشد يدك عليه)
* وقال عنه الإمام البخاري: (اصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر وهي سلسلة الذهب فكل رواتها في أعلى درجات الثقة والضبط والعدالة).
* ويقول سفيان بن عينية (ما رأيت أحدا أجود أخذا للعلم من مالك)
* يقول الإمام الذهبي في طبقات الحفاظ: وقد اتفق لمالك مناقب ما علمتها اجتمعت لغيره:
• أحدها: طول العمر وعلو الرواية.
• وثانيها: الذهن الثاقب والفهم وسعة العلم.
• وثالثها: اتفاق الأئمة على انه حجة صحيح الرواية.
• ورابعها: إجماعهم على دينه وعدالته وإتباعه السنن.
• وخامسها: تقدمه في الفقه والفتوى وصحة قواعده.
* كان الإمام الأوزاعي إذا ما ذكر مالك يقول: هو عالم المدينة وعالم العلماء ومفتي الحرمين.
* وقال عنه أبو حنيفة (لقد كان مالك رجلا جمع فقه أهل الحجاز) * ويقول الشافعي: مالك أستاذي وعنه أخذت العلم وما من أحد أمن علي من مالك ولقد جعلت مالكا حجة بيني وبين الله.
* وقال عنه الإمام احمد (مالك إمام في الحديث وفي الفقه) ظل مالك بن انس طالبا للعلم ناصحا في تحصيله وكان يقول: (كان الرجل يختلف (يذهب) إلى الرجل ثلاثين سنة يتعلم منه) وكان مالك رضي الله عنه شديد التمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا رحمه الله إلى التمسك بهذه السنن لأن الأخذ بها إتباع لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله من اهتدى بها فهو مهتد ومن استنصر بها فهو منصور.
تردد الإمام مالك على سبعين من كبار العلماء الذين لهم حلقات في المسجد النبوي ولم يجلس الإمام مالك في مجلس العلم معلما إلا بعد أن إذن له كل هؤلاء العلماء الأعلام وشهدوا له بالأهلية. وكان رضي الله عنه يقول (ما أجبت في الفتوى حتى سالت من هو أعلم مني) وهذا من الإمام مالك درس لكل من يتعجل ويسارع في التصدر لإفتاء الناس بدون روية وتثبت ومراقبة لله تبارك وتعالى.
أدب الإمام مالك
كانت للإمام مالك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع سنته وأحاديثه آداب رفيعة من ذلك انه إذا عزم على أن يحدث بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل وتطيب ولبس أحسن ما عنده من اللباس احتفاء برسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان يفعل مثل هذا إذا ما درس أي علم من العلوم الأخرى وكان يمنع من يجلس في حلقته من رفع صوته فوق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عملا بقوله جل من قائل (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وانتم لا تشعرون أن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم)الحجرات2-3
روى عن الإمام مالك طلبة العلم من أهل الحجاز ومن جاؤوا من العراق واليمن والشام ومصر وافريقية والأندلس وكان مالك تقيا ورعا شديد الخشية لله لا يريد من رواء تحصيله للعلم وتعليمه للناس جزاء ولا شكورا. وكان رضي الله عنه على نهج السلف الصالح شديدا مع نفسه يحاسبها يقول (إذا مدح الرجل نفسه ذهب بهاؤه) وكان رضي الله عنه لا يتردد عن الإجابة: بلا أعلم فيما لا يعلم.
فتح الله عليه وخلد ذكره ونفع بعلمه الناس ولا يزال الأمر كذلك وما كان لله دام واتصل.
يقول الإمام مالك (ليس العلم بكثرة الرواية إنما هو نور يضعه الله في القلب).
القيمة العلمية للموطأ
ألف الإمام مالك كتابا عد اصح كتاب بعد كتاب الله هذا الكتاب هو الموطأ رواه عنه أكثر من ألف رجل قال الحافظ السيوطي (الحظ الذي حصل لمالك ممن روى عنه لم يحصل قط لغيره فانه روى عنه الأكبر من كل طائفة من حفاظ الحديث والفقهاء).
* قال الإمام الشافعي (ما على ظهر الأرض بعد كتاب الله أكثر صوابا من موطأ مالك).
* وقال الإمام احمد لما سئل عن موطأ الإمام مالك (ما أحسنه لمن تدين الله به).
* وقال ابن وهب (من كتب موطأ مالك فلا عليه أن لا يكتب من الحرام والحلال شيئا).
ليست هذه النقول التي أوردناها إلا القليل مما قيل في الإمام مالك بن انس رضي الله عنه: في علمه وفقهه وضبطه وعدالته وورعه وتقواه وحبه الشديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في ما أوردناه في ما يخص كتابه الجليل (الموطأ) وهو كتاب ذائع الذكر منتشر بين أيدي الناس.
لقد رفع الله ذكر الإمام مالك ورفع ذكر كتابه الجليل (الموطأ) وانتفع ولا يزال الناس بعلم الإمام مالك وسيرته وأرائه الصائبة وانتفعوا بكتابه (الموطأ) فتعددت رواياته ولا تزال تخرج الواحدة تلو الأخرى محققة مضبوطة تكمل ما سبق أن وصل منها إلى أيدي الناس ولا يزال العلماء ينكبون على مر العصور والى يوم الناس هذا على (الموطأ) يشرحون غريبه (غريب كلماته وما يمكن أن يشكل على غير أهل الذكر) ويؤلفون المطولات في بيان ما فيه من علم غزير وفهم مستنير وتوجه عملي تطبيقي إلى ما دعا إليه الله عباده وما أرشدهم إليه رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام وهل يمكن أن نأتي على ذكر عناوين هذه الشروح التي منها شرح ابن عبد البر (التمهيد) وشرح الباجي وشرح الزرقاني وشرح السيوطي وشرح الكاندهلوي وغير هؤلاء وغير هؤلاء من العلماء الأعلام الذين تورد كتب التراجم كترتيب المدارك للقاضي عياض والديباج وغيرهما عناوين لها لم يصل إلى أيدي الناس إلا النزر القليل منها.
عمل أهل المدينة
إن موطأ الإمام مالك هذا الكتاب الذائع الصيت هو إحدى أمهات السنة والحديث والفقه والفتوى والتطبيق العملي للإسلام في مختلف جوانبه من عبادات ومعاملات وأخلاق، إنه فقه السنة والحديث والصورة المشرقة لمجتمع المدينة كما أدركه الإمام مالك هذا الإمام الذي جعل من أصول مذهبه أصلا اختص به هو (عمل أهل المدنية) وقد قدمه رحمه الله على خبر الآحاد فيما هو من قبيل النقل والتطبيق العملي ومما لا مجال فيه للرأي وهذا بالخصوص في ميدان العبادات التي الشأن فيها الإتباع لا الإبتداع. إنه النقل العملي للجمع الكبير الذين يستحيل تواطؤهم على غير الحق وعلى غير الصحيح الدقيق يقدمه الإمام مالك على رواية الواحد الفرد الذي يمكن أن يكون عدلا ولكن قد لا يرتقى ضبطه إلى درجة الصحة الكاملة.
ولقد كان هذا الأصل (عمل أهل المدينة) الذي اختص به الإمام مالك عن بقية الأئمة ولا يزال محل اهتمام العلماء يبحثون عن سبب اعتماد الإمام عليه وعن تطبيقاته في (الموطأ) وجد العلماء مادة خصبة (لعمل أهل المدينة) في (الموطأ) وهي الصورة العملية للإسلام في المدينة المنورة. ولا تزال الأعمال الجامعية تصدر هنا وهناك عن هذا الأصل (عمل أهل المدينة) مما يجعل منه ميزة من مميزات مذهب الإمام مالك لم يملك العلماء الأعلام قديما وحديثا إلا أن يقروا للإمام بفضل السبق في الاهتداء إلى هذا الأصل واعتباره وبناء الأحكام وفي العبادات وحتى المعاملات عليه.
المصلحة المرسلة
ولم يقتصر تيمز الإمام مالك عن بقية الأئمة على استنباطه لأصل (عمل أهل المدينة) بل أضاف إليه أصلا آخر هو أيضا مظهر من مظاهر تميز المذهب المالكي وهو أصل (المصلحة المرسلة) وهي مصلحة بنت عليها الشريعة الإسلامية أحكامها فالمصالح كما يقول العلماء ثلاثة: مصلحة معتبرة (منصوص عليها) ومصلحة ملغاة (محرمة لما يترتب عليها من ضرر) ومصلحة مسكوت عنها وهي المصلحة المرسلة وهي مظهر من مظاهر مرونة الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل الأزمنة.
وإنبناء التشريع الإسلامي في المذهب المالكي الذي هو أحد مدارس التشريع والفقه الإسلامي على المصلحة إنما هو تجسيم لتلك القاعدة المعروفة (حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله) فكل ما يمكن أن يحقق للناس مصلحة حقيقية غير وهمية ولا جزئية فالأخذ به واعتباره مما يقر عليه الشرع ومما يحقق مرضاة الله ومرضاة رسوله عليه الصلاة والسلام. فالنصوص من كتاب وسنة متناهية وهي محدودة وحياة الناس متطورة، متجددة ولا سبيل لاعتبارها إلا بالعمل بهذه العاقدة الذهبية أي التشريع بالمصلحة.
وبذلك يكون الإسلام صالحا لكل الأزمنة، بهذه المرونة وبهذا التفتح على الواقع واعتباره ومراعاته برزت اجتهادات كانت في غاية الجمال والروعة والاعتبار لمصالح الناس ومقتضيات حياتهم في كل الأمصار والبلدان التي عاشوا فيها وما صدر من كتب الفتاوى والنوازل وما جرى به العمل من أمهات الكتب التي تعددت أجزاؤها وتجاوزت صفحاتها الآلاف أصدق دليل على عمق وثراء وحضارية المذهب المالكي.
ولكم اطيب التحايا ...