اليكم مقال بعنوان :
توحيد الله هو الحل العلمي للغز الكون والحياةبقلم : الدكتور محمد سعيد البوطي
أيهما أسبق ، أو ينبغي أن يكون أسبق في حياة الإنسان ؟ الفكر ،ِ أم السلوك 1
1) اعتقد أنه السؤال سهل غير معقد ، وأن من اليسير معرفة الجواب عنه لكل أحد . فما من شك
أن السلوك إنما هو ثمرة الفكر والتصور ، ومن ثم فالفكر هو الأسبق دائما ، أو هو الذي
يجب أن يكون الأسبق في حياة الإنسان .
وكلما كان الفكر أدق وأصوب ، كان السلوك أكثر تناسبا مع جوانب الحياة واقرب إلى تحقيق
الأهداف المرجوة .
وعلى الرغم من أنهم يقولون . ما من قاعدة إلا ودخلها الشذوذ ، فإننا لا نكاد نعثر على أي
شذوذ أو استثناء على هذه القاعدة .. أن الإنسان أيًا كان ، ما دام عاقلا سوي النظر والتفكير
، لا بد أن يكون سلوكه أيا كان نتيجة تصوير مبدئي وقرار فكري ، ومهما صغر الموضوع
الذي يتعلق به السلوك أو كبر ، فتلك هي القاعدة .
2) والآن ، بوسعنا أن نطرح سؤالا آخر : ما هو الموضوع الكلي الذي نتدرج تحته آلاف
الجزئيات التي يتناولها الفكر الإنساني ومن ثم يتعلق بها السلوك وتغدو ساحة لنشاطات
الإنسان تجاه ذاته وغيره ؟
لا شك أن هذا الموضوع الكلي إنما هو الكون والإنسان والحياة . فمهما كانت المسألة التي
يفكر فيها أحدنا ليتخذ قراره السلوكي في حقها ، فإنها لن تكون إلا واحدة من جزئيات هذا
البيان الكلي الذي هو الإنسان والحياة وسائر المكونات .
_______________________
1 هذا بحث قدمه الدكتور البوطي في ملتقى الفكر الإسلامي الثالث والعشرين الذي انعقد / تبسة / في الجزائر في الفترة
1989 م تحت شعار( نحو مجتمع إسلامي معاصر ) . /9/5-8/ الواقعة ما بين 29
مثل سورية في هذا الملتقى كل من الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي والدكتور أحمد الحجي الكردي وشارك فيه نحو
72 / عالما من أنحاء العالم الإسلامي إضافة على ألف مدعو للاستماع والمناقشة..........................................................................................
وإذا كانت القاعدة التي بدأنا حديثنا هذا بالتذكير بها صحيحة وكلية ، لا يدخلها ريب ولا شذوذ ،
فإن من الضروري أن نبدأ فنسعى إلى فهم هذا البيان الكلي الكبير ، قبل أن نغرق أفكارنا في
خضم جزئياته . فإن السعي إلى فهم أجزاء أو جزئيات شيء ما ، قبل فهم الكل أو الكلي الجامع
لأشتاتهما ، سعي لا طائل منه . بل النتيجة هي أن يعود صاحب هذا السعي بتصورات زائفة و
فهوم خاطئة لتلك الأجزاء أو الجزيئات المتناثرة .
فإذا تجاوز الإنسان مرحلة التصور والفهم ، إلى السلوك والفعل ، ازداد اثر أخطائه اتساعا . إذ
تتحول من نطاق الأخطاء النظرية إلى الضر الواقي والتطبيقي . ومن شأن الضرر الواقعي أن
يتسع ويمتد ، ثم لا يزال يتسع ويمتد إلى المدى لا يعلم حدوده ومضاعفاته إلا الله عز وجل .
3) أما الآن ، فيحين أن نتساءل بجد : ما مدى اهتمام علماء الاجتماع اليوم بهذه الحقيقة ؟ .
وما هو مظهر تطبيقهم لهذا المبدأ الذي فرغنا من بيان أنه مبدأ علمي سليم ؟
إن علم الاجتماع اليوم ليس أكثر من مرآة تبرز به كل أمة أو دولة ، لتتجلى عليها الآثار السلوكية
للمذهب الفكري السائد في تلك الأمة . فهو تابع غير متبوع ن مقود غير قائد
ومن ثم فإنه لم يحل إلى اليوم لأي مجتمع من هذه المشكلات أي مشكلة على كثرة المشكلات
الاجتماعية وتنوعها ، ولم يحقق لها أي خير على الرغم من شدة افتقارها إلى شيء من الخير
والإصلاح . والسبب هو أن هذا العلم ينطلق في رسم المجتمع من واقع سلوكي فرض نفسه ، لا
من فكرة تقوم على حياد القرار العلمي .
إذن لن نجد لأنفسنا من خير لدى علم الاجتماع ، ولن نعثر من شيء من المذاهب السائدة فيه على
ما قد ينجدنا لحل أي مشكلة . ولذا فلا مناص من أن نعود فنواص سعينا إلى حل هذه المشكلة
باستخدام القاعدة التي فرغنا من بيانه وعرفنا أنها الحق الذي لا ريب فيه . أي فلا بد من أن نبدأ
السعي إلى تحصيل تصور علمي سليم الحقيقة الكون والإنسان والحياة ، ومن ثم إلى معرفة
القصة الإنسانية والنهاية التي تنتظر في أعقابها .
ومهما كانت الأداة العلمية التي يمكن استخدامها للوصول إلى هذا التصور المتفق مع العقل
والمطمئن للنفس ، فإن النتيجة لا بد أن تتخلص في معرفة ما يلي :
هذه الخليقة تتسم بالنظام الهادف الذي يبرز جليا في كل ما تنطوي عليه من دخائل وجزئيات أو
أجزاء . . إذن فلا بد أنها من صنع صانع ذي حكمة وتدبير . . ثم أن هذه الخليقة ، بكل جوانبها
وأجزائها وأنواعها ، تتسم بالوحدة ضمن الكثرة . يبرز ذلك في دونها الدائب على محور واحد لا
يتبدل ، كما يتجلى في تناسقها المتضافر ابتغاء السعي إلى غاية واحدة . . إذن فلا بد من أن
صانعها ومدبرها واحد لا ثاني له ولن تجد من برهان علمي على هذه الحقيقة أدق ولا أجلى من
برهان قول الله عز وجل :
( لو كان فيها آلهة غير الله لفسدتا . . )
ثم أن الوحي الإلهي تنزل ليكسب هذا البرهان العقلي والعلمي مزيدا من التأكيد والرسوخ
وليضف إلى هذه المعلومة كثيرا من التفاصيل التي لا يمكن أن يستقل العقل وحده بكشفها
والوصول إليها . إذ هي داخلة في الغيوب التي لا تخضع لوسائل التجربة والحس ، فلا مطمع
من الكشف عنها إلى بواسطة النص الم علم بشأنها الشارح لتفاصيلها ، على أن يثبت بالبرهان
العلمي أن هذا النص إنما تنزل وحيا من لدن صانع الكون ومبدعه إلى من قد اختاره رسولا منه
إلى الناس ، يبلغهم من خلاله جملة البيانات والتعاليم التي ينبغي أن يعرفوها عن الكون والإنسان
والحياة .
ولو أن الفلاسفة اليونانيين أتموا معارفهم العقلية التي أكدت لهم ضرورة وجود الصانع وكونه
متصفا بالحكمة والعلم والتدبير ، بالإصغاء إلى الوحي الإلهي متمثلا في النص ، أو النقل المتمم
للعقل ، إذا لما تاهوا ولما اضطربوا في تصورهم لهذا الإله الصانع ، ولما توهموه مرة في
العقول العشرة ، ومرة في إلهين واحد منهما للخير وأخر للشر ، ولما ذهبوا في تصور علاقة
هذا الصانع بمصنوعاته مذاهب شتى .
وإن العجب لا ينتهي من شأن هؤلاء الفلاسفة ، كيف استطاعوا استعمل عقولهم في بض الأمور
إلى أقصى ما أمكنهم الوصول إليه من أغوارها البعيدة ، وكيف عجزوا عن إدراك أمور أخرى
إلى جانبها فلم يستطيعوا استعمال عقولهم حتى في الوصول إلى دراية سطحية لها . . . فعلى
سبيل المثال : إن أي عاقل لا يعجز عن معرفة أن المسائل الغيبة التي لا تدخل في نطاق التجربة
والحس ، لا يستقل العقل وحده بمعرفتها معرفة صحيحة . بل لا بد لذلك من تضافر كل من العقل
والنقل معا غير أن أولئك الفلاسفة تاهوا عن هذه الحقيقة وعجزت عقولهم عن التنبه إليها ،
فحملوا عقولهم عبء كل من العقل والنقل معا ، وكانت النتيجة أن أورثتهم عقولهم ، بدلا من
العلم بها ، القلق والاضطراب ، ولم تأت إليهم بأي طائل . ولقد ظلت هذه الآفة عالقة بالفكر
الفلسفي ، حتى جاء الفلاسفة الإسلاميون ، بكل فئاتهم ، فنبهوا إلى هذا الخطأ الكبير وأبرزوا
القسمة العادلة في منهج البحث بين كل من العقل والنقل ، في بحوث مستفيضة تعد بحق من أبرز
مزايا الفلسفة الإسلامية ومن أهم ما استدرك به العلماء والفلاسفة الإسلاميون على الفلاسفة
الإغريقيون .
4) والآن ، ما هي الصورة التي عدنا بها عن هذه الموجودات المتمثلة في كل من الكون والإنسان
والحياة ، بعد أن اعتمدنا في السعي إلى فهمها على كل من صريح العقل وصحيح النقل ؟ .
لقد علمنا أن هذه الموجودات في مجموعها ، كل واحد متناسق ، وأن الإنسان في داخل هذا الكل
أشبه النواة القائمة في داخل الخلية . فيما تتحرك هذه الأجرام الكونية ، ماضية في أداء مهامها ،
إلى حول محور الإنسان , وما تسعى إلا في خدمته ولرعاية مصالحة .
أما الإنسان ذاته ، فهو أكرم مخلوق على الله عز وجل ، متعه بظلال من صفات ذاته العلية ،
لتؤهله لعمارة الكون والخلافة عن الله في إقامة موازين العدل ورعاية الأسرة الإنسانية على خير
وجه . وهو الوجه الذي ارتضاه الله عز وجل لها . . وقد أنبأه الوحي الإلهي بقصة نشأته وكيفية
تكاثره فوق هذه الأرض ، وأكد له خبر النشأة الثانية بعد الموت والجزاء العادل الذي أعد له على
كل ما قدمه في حياته الدنيا من خير وشر ، كما أكد له أن هذه الحياة التي يعيشها اليوم ليست إلا
ممرًا إلى مقر .
5) ونظرا إلى ما أثبتته كل من العقل والنقل من أن الصانع لهذه المكونات والمتصرف فيها واحد لا
ثاني له في ذاته وصفاته ، فلا بد من اليقين بأن شيئا من هذه الموجودات لا يستقل بأي قوة أو
تماسك بل لا يستقل بأي وجود ذاتي لا ابتداء ولا دواما . إذ لو استقل بشيء من ذلك في لحظه
من اللحظات ، منفصلا عن المبدع والصانع ، لكانت ثمة قوة غير قوته ، تفعل فعلها منفكة عنه
ودون احتياج إليه . ولا بد أن تكون هذه القوة عندئذ قوة إله آخر قد استقل بمقومات الألوهية
كاملة غير منقوصة وهو ما قد رفضه العقل اعتمادا على أوضح الحجج والبراهين ، وهو ما جاء
النقل أيضا برفضه والكشف عن تهافت القول به .
إن الوحي الإلهي يؤكد أن المكونات كلها كانت ولا تزال قائمة بإيجاد الله إياها ثم رعايته لهذا
الوجود لحظة فلحظة ، بحيث لو تخلى الله عنها لتفككت أجزاؤها ، وأجزاء أجزائها وذهبت هباء
، ثم استحالت عدمًا .
تأمل في قول الله عز وجل ( إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ) ، وفي قوله سبحانه :
( ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ) ، وفي قوله ( وحملناه على ذات ألواح ودسر ،
تجرى بأعيننا . . ) ، وفي قوله ( باسم الله مجراها ومرساها ) . وفي قوله سبحانه ( الله لا إله
إلى هو الحي القيوم ) ومعنى القيوم القائم على الدوام بشأن المخلوقات بحيث لو تخلى عنها لحظة
لانهار وجودها وانتهت إلى عدم .
إذن ، فلا وجود لما يسميه الفلاسفة ، ويقلدهم في ذلك المعتزلة بالقوة المودعة في الأشياء أيا
كانت هذه الأشياء ، جامدات أو نبات أوحيوانات . لأن تصور كون القوة مودعة فيها يعني
استقلاليتها في التصرف ، وهو أقرار بمعنى واضح من معاني الألوهية لها ، وهو يناقض
وحدانية الله وألوهيته لها ، وهو يناقض وحدانية الله وألوهيته التي ثبتت بكل من دليلي العقل
والنقل .
6) فإذا تشبع الإنسان بفهم هذه الحقيقة ، وفاضت من عقله إدراكا ويقينا على وجدانه اصطباغا
وشعورا ، تحقق عندئذ بتمام معنى العبودية لله تعالى : إذ يدرك أن لا موجد ولا معدم ولا ضار
ولا نافع ولا محرك في الكون كله إلا الله عز وجل . ويعود في ذاته ولا يراها إلا مظهرا ، بل
نموذجا لهذا العجز الكوني العام ، وإنما هو في غدوه ورواحه وتحركه وسائر تصرفاته وأعماله
أشبه ما يكون بشاشة الاستقبال ، أن أنقطع عنها الإرسال عادت شيئا هامدا جاثما لا معنى بل لا
وجود له .
7) غير أن الإنسان يملك شيئا واحدا بتمليك الله له وتفضله به عليه ، ألا وهو حرية اتخاذ القرار
والقدرة على العزم على فعل ما يريد . وهي هبة حقيقية أكرم الله بها الإنسان ومتعه بها ، لا
مجال لإنكارها أو الارتياب فيها . والحس والتجربة خير شاهدين على ذلك . هذا مع العلم بأن
رعاية الله مستمرة للإنسان ليستمر متمتعا بهذه الملكة الهامة ، كما أن رعايته للإنسان مستمرة
لبقائه متمتعا بسر الحياة والوجود .
هذه الملكة التي يمتع الله الإنسان بها هي مناط التكليف وأساسه . فقصد الإنسان إلى الشيء
وعزمه عليه هو مصدر الثواب أو العقاب . أما ما يتبع ذلك من الأفعال والحركات العضوية
فمجرد مظهر وشاهد على القصد والتوجه القلبي ، يخلقها الله في الإنسان عند توجهه إلى الفعل
الذي يريد .
* * *
فإذا تكاملت هذه الصورة في وعي الإنسان وتحولت إلى تصديق راسخ مبني على البرهان
العلمي ، فإن من المنطقي والطبيعي أن تنعكس على نظام الهيئة الاجتماعية ، وأن تسير حياة
الناس في علاقاتهم المتبادلة ووجوه أنشطتهم المتنوعة ، وفق هذا التصوير الذي تحول إلى
تصديق علمي راسخ .
ولا شك أن من أهم الأخطاء التي لا بد أن تترك سلسلة من الآثار السيئة على حياة الإنسان
الفردية والاجتماعية ، أن ينهض المجتمع الإنساني أو ينهض عمل أي فرد فيه ، على ما يناقض
أو يخالف تلك الصورة العلمية الثابتة لواقع الكون والإنسان والحياة .
وبوسعي أن أقرر جازما أن سائر الصور المأساوية التي تفور بها المجتمعات الإنسانية اليوم من
طبقية تفرز ألوانا من الاستغلال بل الاستعباد ، وعدوان يدفع إلى حروب طاحنة وإلى تربص
الإنسان بأخيه الإنسان وأنانية مستشرية تمزق أوصال الرحم الإنسانية وتحيل صفاء المودة على
كيد وأحقاد – هذه الصور المأساوية كلها ليست إلا نتيجة طبيعية للتشاكس بل للتناقص القائم بين
الحقيقة والسلوك . .
أي بين ما هو ثابت ومعلوم من قصة الكون والإنسان ، والحياة وما يختاره الناس لأنفسهم من
أنماط السلوك والأصول والعلاقات الاجتماعية ، بعيدا عن محاولة أي توفيق بين تلك الحقيقة
الثابتة وهذه الأنماط السلوكية التي تقودها الشهوات والأهواء .
9) وما من ريب من أن أقصر وأنجح علاج للقضاء على هذه المأساة كلها ن أنما هو مراجعة ما
استقر في أذهاننا عن حقيقة هذا الكون الذي نعيش فيه وقصة رحلتنا التي تتم في خضم هذه الحياة
، وكنس الأوهام والأخيلة الباطلة التي تختفي وراء أقنعة العلم وعناوينه ، ثم أعادة ترسيخ هذه
الحقيقة العلمية التي لا مراد لها ، والتي تضافر على تأكيدها العقل والنقل . فإذا ساد اليقين بها ،
ثم تم ترسيخها تربية وتعليما في قطاعات الناس وفئاتهم ، نشأ على أعقاب ذلك مجتمع إنساني
سليم مبرا من تلك المآسي كلها :
* لن تسود الطبقية المستغلة أو المستعبدة لأن اليقين بوحدانية الله تعالى يجعل منهم ، على اختلاف
طبقاتهم عبيدا لله متحابين ومتآخرين .
فهم وإن تفاوتت فيما بينهم الدرجات والرتب لا يشعرون إلا بأنهم سواسية في ظل عبوديتهم لله
وحاجتهم الماسة إلى رحمة الله . فهم في ذلك مظهر تطبيقي لقول الله عز وجل :
( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم
بعضا سخريا ، ورحمة ربك خير مما يجمعون ) .
ولن يسود تسلط ولا عدوان ، لأن اصطباغهم بمعنى وحدانية الله أورثهم يقينا جازما بأن لا قوة
في الكون إلا قوة الله ولا نافع ولا ضار إلى الله عز وجل .
ومن شأن هذا اليقين أن يحرر الضعفاء من سلطان المستكبر ويلقى بهم على صعيد الكرامة
الإنسانية الصافية ، وأن يحطم شموخ المستكبرين وطغيانهم ويهبط بهم إلى صعيد العبودية لله عز
وجل . وتنتظر ، فإن الكل متساوون متواسون ، لا يسموا واحد على صاحبه إلا بالتقوى والعمل
الصالح . . . ولن تجد مظهرا يجسد هذه الحقيقة في كتاب الله عز وجل مثله حديث عن سحرة
فرعون ، كيف جعلهم الشرود عن معرفة أنفسهم والكون الذي حولهم أذلة صاغرين ، ثم كيف
حررتهم معرفتهم لأنفسهم وتوحيدهم للخالق عز وجل من ذلك الذل والصغار ، وسمت بهم حيث
يهزؤون بفرعون وسلطانه ويستخفون ببطشه وطغيانه . انظر إلى قوله عز وجل :
( فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هرون وموسى : قال آمنتم له قبل آذن لكم ، إنه لكبيركم
الذي علمكم السحر ، فلأ قطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ، ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن
أينا أشد عذابا وأبقى . قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ، فاقض ما أنت
قاض . إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر
73 – والله خير وأبقى ) طه 70
* ولن تمزقهم فرقة ، كما لن تتوازعهم دوائر الأعراق والأقوام والشعوب واللغات . . . لأن
اجتماعهم على اليقين بوحدانية الله ، ذاتا وصفات وأفعال ، يشدهم إلى معنى الأسرى الواحدة التي
تحيا وتتحرك تحت مظلة البر برب هذه الأسرة . . وإذا كان المجتمع الإنساني أسرة واحدة في
الحقيقة ، فلا شك أن ربها عز وجل . ومن الطبيعي بل من الضروري في ظل هذا الشعور
الوحدوي الجامع ، أن تذوب مما بينهم فوارق الأعراق والألوان والشعوب واللغات .
وأنا ألفت النظر إلى أنني أقول : تذوب فوارق الأعراق . . إلخ ، ولا أقول : تذوب الأعراق
والألوان . . نفسها . وفرق كبير بين دلالة التعبيرين . إن شعور الإنسان بمعنى عبوديته لله عز
وجل وتحققه بهذه الهوية وبالنسبة إلى أعضاء الأسرة الإنسانية الواحدة ، ليس من شأنه أن يذيب
تعدية الأقوام أو اللغات أو الشعوب . . ثم يصرها ويصبها في قالب بشري واحد ينطق بلغة
واحدة وينتمي إلى عرق واحد أو ينحدر من سلالة واحدة ، فإن هذا باطل من التصور والقول . .
بل هو يناقض النظام الذي أقام الله عليه هذه الخليفة من عباده . فقد قضى الله عز وجل أن يكونوا
كثرة في الأعراق والألوان والشعوب واللغات ، على أن تحتضن كثرتهم هذه وحدة عامة شاملة
يجسدها سلطان العبودية لله الواحد الأحد ، ويجمعها نسق السير على ما يرضي هذا الإله الواحد
وحده . . فهم في تلك الكثرة المشمولة بسلطان هذه الوحدة أشبه بالأغصان الكثيرة المتشعبة تتفرع
عن جذع واحد ، وتأخذ غذاءها وقانون نموها وتماسكها من أصل راسخ واحد . وما أجلى هذه
الحقيقة وأجمعها في قول الله عز وجل : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم
شعوبا وقبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) .
• ثم إنهم لن يؤلهوا طبيعة ولا مادة ، ولن يستخزوا أمام أي من الشهوات والأهواء . لأن
عبوديتهم الصادقة لله عز وجل تجعلهم لا يقيمون وزن لغيره أيا كان : أن الطبيعة والمادة ،
لكل ما قد يكون لها من أنظمة وقوانين ، جند من جند الله تعالى يحركه ، لحظة فلحظة كما
يشاء والأهواء والشهوات إن هي إلا عناوين فتنة وابتلاء ، يستبين تحت فتنة حربها الصادقون
في عبوديتهم لله إذ يلوذون بلطفه ويفرون إلى حسن حمايته فإذا حرها المتأجج بردا وسلام ،
والكاذبون في دعوى هذه العبودية ، إذ يبقعون تحت أسرها ويستسلمون لأعاصيرها ، فإذا
الإله الحقيقي الذي يدينون له بالعبودية والولاء ، إنما هو هذه الشهوات والأهواء ، لا ربها
وخالقها الذي جعلها لعبادة مادة امتحان وابتلاء . وجل من قال في محكم كتابه : ( أرأيت من
. اتخذ إلهه هواه ، أفأنت تكون عليه وكيلا ) الفرقان 43
• ولكنهم في الوقت ذاته لا ينفضون أيديهم من استخدام ما سخره الله لهم ، وجعله طوع
سلطانهم العقلي ثم العضلي ، وأمرهم أن يتخذوا ذلك كله جندًا لهم في عمارة الأرض بأوسع
معانيها الحضارية ، كما حذرهم من أن يبتعدوا أو يتنكروا للفطرة الإنسانية التي فطر الله.
الناس عليها فيحرم حلا ً لا أو يضيقوا على أنفسهم واسعاًَ أو يزهدوا فيما أمكن الله عليهم به ،
فهم وقد أيقنوا بوحدانية من بيده كل شيء واصطبغوا بأتم معاني العبودية له والافتقار إليه
ويظلون يعبرون عن فقرهم إليه بمد الأيدي إلى عطائه والتقلب في كل ما يرد إليهم من نعمائه
، ولا ريب أنهم بذلك خير من يدرك معنى قوله عز وجل : ( كلوا من رزق ربكم واشكروا
له بلدة طيبة ورب غفور ) . ثم يتفاعل معه ويستجيب له عبودية وشكرًا ، ولقد ورد في
ترجمة معروف الكرخي رحمه الله أنه لا يحرم نفسه من التمتع بالطيبات التي يكرمه الله بها
فإذا جاء من يذكره بالزهد قال له : " إنما أنا ضيف عند ربي إن أطعمني أكلت وإن منعني
صبرت " . ولعمري لا يستبين الفقر إلى الله إلا عند مديد الحاجة إلى عطاء الله فمن كف يده
عن الطلب من الله تعالى تعففًا وزهدًا ، فقد حاول بذلك أن يثبت عدم افتقاره إلى الله وهيهات
أن يستقيم له ذلك .
تلك هي الآثار التربوية والاجتماعية التي لا بد أن يثمرها اليقين بوحدانية الله عز وجل ومن
مجموع هذه النتائج والآثار يتكون المجتمع الإنساني السوي والسليم، ويتكامل بناء الحضارة
الإنساني المثلي .
ومهما ظل الناس شاردة أفكارهم وتصوراتهم عن التنبه إلى الحقيقة الكونية التي لا تخفى على من
سلط عليها أشعة النظر العلمي المتحرر ، ذاهلة عقولهم عن أن هذه الكثرة الكونية إن هي إلا
ضغث في قبضة رب العالمين وحده يرعاه ويتصرف به كما يشاء – فلسوف يبقى لغز هذا الكون
مستعصيا على الحل مهما تفرعت واتسعت بحوث العلماء ، ومهما تعمقت نظرات الفلاسفة
وعلماء الاجتماع . ومن ثم فلسوف تبقى المشكلات الإنسانية المختلفة في تفاقم وازدياد .
وإن في مآسي الدنيا التي من حولنا ، والنذر التي يمتد ضابطها وراء بريق المدينات والحضارات
، والضيق الذي يرتاب الصدور ، والأمراض التي تحتاج الجسوم والنفوس ، ودون أن يتبدى
بريق أمل في إمكان التخلص من هذه الآفات – لأكبر شاهد على ما نقول .
تلك هي آيات الله في الآفاق . . وها هي ذي آيات الله في أنفسنا . . اجتمعت لتكون شاهد صدق
على أن هذا الكن كله أنما هو مملكة لله ، لا حكم فيه إلا الله ، ولا أمل في الوصول إلى الخير
الحقيقي والسعادة الاجتماعية المثلي إلا بالاصطلاح مع الله .
فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ؟ .
انتهي ... ويمكن تحميل هذا المقال من موقع الموضوع الاصلي علي الرابط الاتي :
أضغط
هنــــــــــــــــــــــــاالمصدر:
موقع نسيم الشام