دفع شبه التشبيه لابن الجوزي
تحقيق الشيخ حسن السقاف
[ 1 ]
دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه تأليف الامام الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي المتوفى سنة 597 ه حققه وقدم له حسن السقاف دار الامام النووي
[ 2 ]
حقوق الطبع محفوظة للمحقق الطبعة الثالثة مزيدة ومنقحة 1413 ه - 1992 م دار الامام النووي عمان - الاردن - ص . ب 925393 هاتف 172011
[ 3 ]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي دفع شبه التشبيه والتجسيم ، بأكف التنزيه بالعلم والتعليم ، وكشف لنا من النصوص خفيات المعاني ، وأوقفنا على المراد من تلك المباني ، وجعل آلاءه على ذوي الاخلاص دائمة مستمره ، وبشائر رضاه متجددة على أوليائه بإعطائهم ابتهاج العلم ودره ، فأضحت قلوبهم وأرواحهم بمدده مشرقة الاوضاح متهللة الاسرة ، فسبحان من أطلع أنجمهم بأفق التقريب مرة بعد مرة ، وجعلهم يجدلون المحجوبين بالاغيار من أهل التجسيم والتشبيه كرة بعد كره . ونحمد الله تعالى أن جبل سجايانا في مقام الاحسان والمبره ، وسخرنا لنشر عقيدة الاسلام الصحيحة والذب عنها بحجج وبراهين دامغة ولا زلنا نعرف خيره ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تشرح للمؤمن صدره ، وتصلح للموقن بها أمره ، ونشهد أن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله الذي أسمى سبحانه على الخلائق قدره ، وتولى في المضايق نصره ، وأعلى في المشارق والمغارب ذكره ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الذين أذهب عنهم الرجس أعز عتره ، ورضي الله عن أصحابه الذين أسدوا المنة ولم يخالفوا أمره ، صلاة ورضوانا متواصلين في كل أصيل ومكررين في كل بكره ، ما وهب فضل الله مستحقا فسر بالعواطف والعوارف سره ، وجعل عالما خلفا لعالم فحل محله وقر مقره .
[ 4 ]
أما بعد : فلا نريد الاطالة والاسهاب ، وإنما نريد الايضاح وخدمة أهل العلم والطلاب ، وإفادة المسلمين عامة والاحباب ، بتقديم مقدمة نفيسة لكتاب الحافظ عبد الرحمن بن الجوزي القرشي رحمه الله تعالى نذكر فيها الابواب التالية : الباب الاول : في التعريف بالحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى . الباب الثاني : إثبات التأويل عند السلف . الباب الثالث : في بيان أن خبر الواحد يفيد الظن ولا يوجب العلم وإنما يوجب العمل فلا تبنى عليه أصول الدين . الباب الرابع : ذكر الحديث الصحيح وما يتعلق به وبيان أن كثيرا من الحفاظ لم ينظروا إلى الشذوذ والعلة اللذين قد يوجدان فيه ، وهو بحث مهم جدا . الباب الخامس : إبطال استدلالات المشبهة على العلو الحسي وبيان بعض تمويهاتهم في ذلك . وذكر أهم أسماء الكتب التي يتكئ عليها المجسمة في موضوع التوحيد والصفات والتنفير منها ، والحض على كتب معتمدة في التوحيد . فنقول وبالله تعالى التوفيق :
[ 5 ]
الباب الاول التعريف بالحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى قال الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (21 / 365) : " أبو الفرج ابن الجوزي : الشيخ الامام العلامة ، الحافظ المفسر ، شيخ الاسلام (1) ، مفخر العراق ، جمال الدين ، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي ابن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن عبد الله ابن الفقيه عبد الرحمن ابن الفقيه القاسم بن محمد ابن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق القرشي التيمي البكري البغدادي الحنبلي الواعظ صاحب التصانيف ولد سنة تسع أو عشر وخمس مائة " اه . " وجد بخطه قبل موته أن تواليفه بلغت مئتين وخمسين تأليفا " . قلت : وقد ذكر الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (21 / 374) أن من جملة تصانيفه : هذا الكتاب وسماه : " كف التشبيه بأكف أهل التنزيه " مجيليد . يقول حسن السقاف : وهذا سند اتصالنا بالكتاب :
(1) لا نجيز إطلاق هذه اللفظة على عالم ، لان دين الاسلام لا يملك أحد أن يكون شيخه دون الباقين ، لا سيما وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسم بذلك فكيف يطلق على غيره ؟ ! ! (*)
[ 6 ]
أرويه عن سيدي المحدث المفيد أبا الفضل عبد الله بن الصديق الغماري عن الشيخ المعمر محمد دويدار الكفراوي التلاوي عن الشيخ ابراهيم الباجوري عن الامير الكبير عن البدر الحفني عن العلامة البديري عن ابراهيم الكردي عن صفي الدين القشاشي عن الشمس الرملي عن العلامة زكريا الانصاري عن مسند الديار المصرية في وقته عبد الرحيم ابن الفرات عن أبي حفص عمر المراغي عن الفخر أبي الحسن علي بن أحمد المعروف بابن البخاري الحنبلي عن الحافظ ابن الجوزي به . وأرويه عن السيد سالم بن عمر بن عبد الرحمن السقاف عن العلامة السيد محمد بن هادي السقاف عن عوض بن محمد العفري الزبيدي عن السيد اسماعيل ابن زين العابدين البرزنجي المدني عن صالح الفلاني المدني عن محمد سعيد بن سفر المدني عن الشيخ محمد بن عبد الله المغري المدني عن عبد الله بن سالم البصري المكي عن علي الطبري المكي عن عبد الواحد الحصاري عن عبد الحق السنباطي عن الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الحافظين أبي الفضل العراقي وأبي الحسن الهيثمي قالا أخبرنا أبو الفضل محمد بن اسماعيل بن عمر الحموي قال أخبرنا الفخر ابن البخاري عن الحافظ ابن الجوزي به . ولنا إليه أسانيد أخرى تركتها خوف الاطالة .
[ 7 ]
الباب الثاني إثبات التأويل عند السلف السبب في عقد هذا الباب أنه قد نشرت كتب كثيرة في زماننا هذا من قبل من يميل إلى التشبيه والتجسيم ومن على شاكلتهم من " تجار الكتب " الذين لا هم لهم إلا تحقيق الربح المادي وإرضاء من تنفق بضاعتهم في بلادهم ، فاستمرأوا طبع بعض الكتب التي تبحث في موضوع العقائد والتوحيد ، والتي نص مؤلفوها وهم من الخلف على الاخذ بظواهر النصوص المتعلقة في التوحيد والصفات مما هي في الحقيقة إضافات لا يراد منها اثبات صفات كما سيمر في صلب كتابنا هذا ، كما نصوا على عدم القول بالتأويل وأنه من شعار الجهمية والمعطلة بزعمهم ، وقد راج هذا الامر على كثير من طلبة العلم الذين لم يدركوا حقيقة الامر بعد ، بل تعدى ذلك إلى نسبة كبيرة من المدرسين في كليات الشريعة والمعاهد الشرعية فظنوا أن ما يقوله بعض المشبهة من أن التأويل ضلال وبدعة وتعطيل وتجهم وأنه لم يكن عند السلف حقا ، وليس الامر كذلك على الحقيقة ، بل من قرأ ودرس وفتش وبحث وطالع ونقب فإنه سيجد لا محالة أن العدول من الائمة الثقات في القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية المسماة عند بعض العلماء بقرون السلف قد أولوا كثيرا من النصوص المتعلقة بموضوع الصفات والتوحيد وبينوا أن الظاهر منها غير مراد ، وحسبي في مثل هذا المقام أن أسرد بعض تأويلاتهم وأن أبين قبل ذلك أنهم تعلموا التأويل من كتاب الله تعالى وسنة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الصحيحة وإليك ذلك (1) :
(1) وإنني أنصح كل من لم يتفكر في مآله وآخرته وانقلابه إلى ربه ودخوله في قبره من تجار الكتب وأرقائهم الذين يحققون ! ! الكتب لهم أن يبتغوا طاعة الله ورضاه (*)
[ 8 ]
1) لقد علمنا الله تعالى (التأويل) في كتابه العزيز ، أي عدم إرادة ظاهر النص الوارد (1) في قوله تعالى :
قبل أن يفكروا في الربح المادي وطرق ترويج الكتب ، وخصوصا الكتب التي تحوي عقائد تالفة ، وأمورا مفروغا من بطلانها ، وليعلم جميع المسلمين أن هناك من يقوم على ترويج كتب فيها مخالفة عقيدة الاسلام الصحيحة بإسم الاسلام والى ترجمتها إلى لغات عديدة لقاء دراهم معدودة ، وإنني أعرف أشخاصا طعنت أسنانهم ، ودنا وقت حصادهم للقاء رب العالمين ، وهم أبعد الناس عن الرجوع والتفكر في إصلاح قلوبهم وتعميرها بذكر الله تعالى ، وتربية نفوسهم وسياستها بل إنهم منهمكون في جمع حطام الدنيا ، راغبون في هذه الدنيا ، يقولون للناس : كفوا ألسنتكم وقد أجازوا لانفسهم الولوغ في أعراض الناس وشتمهم بأحقر الكلمات ، وأسقط العبارات ، والرجل منهم ذو وجهين ، يكونون أمام كل إنسان بوجه يلائمه حتى يحصلوا الرضى من الجميع كما يتوهمون ، والله أحق أن يخشوه ويرضوه ، وقد بلغ الامر ببعضهم أنهم يدونون في تلك الكتب التي ينشرونها ما لا يعتقدون ، ويقولون ما لا يفعلون وأخص منهم من يضعف حديث الذبابة ويدين بذلك ثم يكتب في تعليقاته المنقولة من كتب غيره أنه صحيح (تجاريا) ! ! وهو يعرف نفسه تماما . اللهم إني قد بلغت ، فلتكونوا على علم ومعرفة أيها المسلمون بهذه الطائفة ، وأسال الله تعالى أن يهدي " تجار الكتب " وأجراءهم الذين يمتصون لهم ويقللون أجور الموظفين ليرضوهم ويسخطوا الله تعالى إلى التوبة من تلك الحوبة إنه سميع مجيب . 1) ولا نطالب من اعتقد أن التأويل ضلال مبين أن يسمي ما سنذكره له من الادلة الواردة في الكتاب والسنة والاقوال المنقولة عن السلف تأويلا ، إذ لا مشاحة في التسمية ، وانما نريد بيان روح المعنى المراد من ذلك وهو عدم إرادة ظاهر تلك النصوص وإنما المراد من ذلك معنى آخر بلاغي في لغة العرب التي نزل بها القرآن وهو ما يسمى بالمجاز أو بأي شئ آخر فتأمل . (*)
[ 9 ]
(نسوا الله فنسيهم) التوبة : 67 وقوله تعالى (إنا نسيناكم) السجدة : 14 فبهذه الآيات لا نثبت لله تعالى صفة النسيان وإن ورد لفظ النسيان في القرآن الكريم ، ولا يجوز لنا أن نقول : إن لله نسيانا ولكنه ليس كنسياننا ، وذلك لان الله عزوجل قال : (وما كان ربك نسيا) مريم : 64 . ولا يحل لرجل عاقل بعد هذا أن يقول : " ينسى لا كنسياننا ، ويجلس لا كجلوسنا ، وهو في السماء ليس كمثله شئ ، كما نقول : هو سميع ليس كسمعنا ، وهو بصير ليس كبصرنا . . . . " . والجواب على هذا أننا نقول له : قولك لا كنسياننا ، ولا كجلوسنا ، وليس كمثله شئ بعد قولك هو في السماء ، لن يفيدك البتة ، ولن ينفي عنك التشبيه والتجسيم ، لانه ليس كل ما ورد يصح أن يوصف الله عزوجل به ، وإيراد جملة : (سميع لا كسمعنا وبصير لا كبصرنا) لن يجدي المموه شيئا ، وذلك لان المراد بأنه يسمع لا كسمعنا : أن نثبت لله تعالى صفة السمع ثم ننزهه عن آلة السمع وهي الاذن ، فيتصور وجود صفة السمع بلا آله ثم يفوض علم ذلك لله تعالى بعد الايمان بصفة السمع لان صفة الخالق لا يمكن للمخلوق أن يدركها ، لكن الجلوس والحركة لا يتصور فيهما شئ يمكن نفيه ثم تفويض الحقيقة الباقية إلى الله تعالى ، فالحركة مثلا التي يصف الشيخ الحراني بها المولى سبحانه وتعالى عما يقول لا يفهم منها ولا تعقل إلا بأنها انتقال من مكان إلى مكان ، فإذا نفيت بعد إثباتها الانتقال لم تعد حركة فيبطل الكلام ويقع التناقض لانه لم يبق شئ يمكن إثباته خلافا للسمع والبصر فتأمل جيدا . ويتضح هذا أكثر في المثال الثاني :
[ 10 ]
2) ثبت في صحيح مسلم (4 / 1990 برقم 2569) عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول : " يا ابن آدم مرضت فلم تعدني ، قال : يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ، قال : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده ، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده . . " الحديث فهل يا قوم يجوز لنا أن نقول : نثبت لله صفة المرض ولكن ليس كمرضنا ؟ ! ! وهل يجوز أن نعتقد أن العبد إذا مرض مرض الله تعالى أيضا وكان عند المريض على ظاهره وحقيقته ؟ ! ! . كلا ، ثم كلا ، بل نقول إن من وصف الله تعالى بأنه يمرض أو قال إن له صفة المرض كفر بلا مثنوية ، مع كون تاء مرضت مضمومة وير تدذ عربية على أن المرض يتعلق بالمتكلم ، لانه مع كل هذا نقول : الظاهر غير مراد وهو مصروف ومؤول عند جميع المسلمين العقلاء ، فيكون هذا دليلا واضحا كالشمس من السنة في تعليمنا التأويل . ومعنى الحديث كما قال الامام الحافظ النووي في " شرح صحيح مسلم " (16 / 126) : " قال العلماء إنما أضاف المرض إليه سبحانه وتعالى والمراد العبد ، تشريفا للعبد وتقريبا له ، قالوا : ومعنى : وجدتني عنده أي : وجدت ثوابي وكرامتي . . . . . . " اه فتأمل . وعلى هذه القاعدة الواضحة للتأويل المبنية على نصوص الكتاب والسنة سار الصحابة والتابعون وأتباعهم وأئمة الاجتهاد والحفاظ المحدثون ولننقل لكم بعض تأويلاتهم حتى يزداد القلب طمأنينة وانشراحا فنقول :
[ 11 ]
3) ممن أول سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " اللهم علمه الكتاب " (1) فقد نقلت عنه تأويلات كثيرة فيما يتعلق بمسألة الصفات بأسانيد صحيحة نذكر بعضها : أ - أول ابن عباس قوله تعالى : (يوم يكشف عن ساق) القلم : 42 ، فقال : " يكشف عن شدة " فأول الساق بالشدة . ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (13 / 428) والحافظ ابن جرير الطبري في تفسيره (29 / 38) حيث قال في صدر كلامه على هذه الآية : " قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل : يبدو عن أمر شديد " اه . قلت : ومنه يتضح أن التأويل كان عند الصحابة والتابعين وهم سلفنا الصالح . قلت : ونقل ذلك الحافظ ابن جرير أيضا عن : مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة وغيرهم . ب - وأول سيدنا ابن عباس رضي الله عنه أيضا قوله تعالى : (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون) الذاريات : 47 ، " قال : بقوة " كما في تفسير الحافظ ابن جرير الطبري (7 / 27) ، ولفظة (أيد) هي جمع يد وهي الكف كما في " القاموس المحيط " في مادة (يدى) حيث جاء فيه : " اليد : الكف ، أو من أطراف الاصابع إلى الكتف ، أصلها يدي جمعها : أيد ويدي " وانظر " تاج العروس شرح القاموس " (10 / 417 - 418) . ومنه قوله تعالى : (ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها)
(1) رواه البخاري (الفتح 1 / 169) (*)
[ 12 ]
الاعراف : 7 . وتستعمل لفظة (أيد) مجازا وتؤول في عدة معان منها : " القوة " كقوله تعالى : (والسماء بنيناها بأيد) أي : بقوة ، ومنها : " الانعام والتفضل) " ومنه قوله تعالى : (واذكر عبدنا داود ذا الايد إنه أواب) ص : 17 . فتأمل . وقد نقل الحافظ ابن جرير في تفسيره (27 / 7) تأويل لفظة (أيد) الواردة في قوله تعالى : (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون) بالقوة أيضا عن جماعة من أئمة السلف منهم : مجاهد وقتادة ومنصور وابن زيد وسفيان . ج - وأول أيضا سيدنا ابن عباس النسيان الوارد في قوله تعالى : (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) بالترك ، كما في تفسير الحافظ الطبري (مجلد 5 / جزء 8 / ص 201) حيث قال ابن جرير : " أي ففي هذا اليوم ، وذلك يوم القيامة ننساهم ، يقول نتركهم في العذاب . . . " اه . فقد أول ابن جرير النسيان بالترك ، وهو صرف لهذا اللفظ عن ظاهره لمعنى جديد مجازي ، ونقل الحافظ ابن جرير هذا التأويل الصارف عن الظاهر ونقل ذلك ورواه بأسانيده عن ابن عباس ومجاهد . . . وغيرهم . وابن عباس صحابي ومجاهد تابعي وابن جرير من أئمة السلف المحدثين ، إذن ثبت التأويل في ما يتعلق بالصفات عن السلف بلا شك ولا ريب ، وعلى ذلك سار الاشاعرة فهم مصيبون ، وقد أخطأ خطأ فادحا وغلط غلطا لائحا من تطاول على الاشاعرة وضللهم لانهم يؤولون ! ! ، والحق أنهم على هدي الكتاب والسنة سائرون ، والحمد لله رب العالمين . 4) الامام أحمد بن حنبل يؤول أيضا : روى الحافظ البيهقي في كتابه " مناقب الامام أحمد " وهو كتاب مخطوط ومنه نقل الحافظ ابن كثير في " البداية والنهاية " (10 / 327) فقال : " روى البيهقي عن الحاكم عن أبي عمرو بن السماك عن حنبل أن أحمد
[ 13 ]
بن حنبل تأول قول الله تعالى : (وجاء ربك) أنه : جاء ثوابه . . ثم قال البيهقي : وهذا إسناد لا غبار عليه " . انتهى كلام ابن كثير . وقال ابن كثير أيضا في " البداية " (10 / 327) : " وكلامه - أحمد - في نفي التشبيه وترك الخوض في الكلام والتمسك بما ورد في الكتاب والسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه " اه . 5) تأويل آخر للامام أحمد : قال الحافظ ابن كثير أيضا في " البداية والنهاية " (10 / 327) : " ومن طريق أبي الحسن الميموني عن أحمد بن حنبل أنه أجاب الجهمية حين احتجوا عليه بقوله تعالى : (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) قال : يحتمل أن يكون تنزيله إلينا هو المحدث ، لا الذكر نفسه هو المحدث . وعن حنبل عن أحمد أنه قال : يحتمل أن يكون ذكر آخر غير القران " اه . قلت : وهذا تأويل محض ، ظاهر واضح ، وهو صرف اللفظ عن ظاهره وعدم إرادته حقيقه ظاهرة . 6) تأويل آخر عن الامام أحمد : قال الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (10 / 578) : (قال أبو الحسن عبد الملك الميموني : قال رجل لابي عبد الله - أحمد بن حنبل - : ذهبت إلى خلف البزار أعظه ، بلغني أنه حدث بحديث عن الاحوص عن عبد الله - بن مسعود - قال : " ما خلق الله شيئا أعظم من آية الكرسي . . . " وذكر الحديث ، فقال أبو عبد الله - أحمد بن حنبل - : ما كان
[ 14 ]
ينبغي أن يحدث بهذا في هذه الايام - يريد زمن المحنة - والمتن : " ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي " وقد قال أحمد بن حنبل لما أوردوا عليه هذا يوم المحنة : إن الخلق واقع ههنا على السماء والارض وهذه الاشياء ، لا على القرآن) . اه 7) تأويل آخر عن الامام أحمد يتعلق بمسألة الصفات : روى الخلال بسنده عن حنبل عن عمه الامام أحمد بن حنبل (1) أنه سمعه يقول : (احتجوا علي يوم المناظرة ، فقالوا : " تجئ يوم القيامة سورة البقرة . . . . " الحديث ، قال : فقلت لهم : إنما هو الثواب) اه . فتأمل في هذا التأويل الصريح .
تأويل الامام البخاري صاحب الصحيح رحمه الله تعالى : نقل الحافظ البيهقي في " الاسماء والصفات " ص (470) عن البخاري أنه قال : " معنى الضحك الرحمة " اه . وقال الحافظ البيهقي ص (298) : " روى الفربري عن محمد بن اسماعيل البخاري رحمه الله تعالى أنه قال : معنى الضحك فيه - أي الحديث - الرحمة " اه فتأمل . وقد نقل هذا التأويل أيضا الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " كما سيأتي في حديث الضحك في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى .
(1) أي أن حنبل سمع الامام أحمد يقول ، وقد نقل هذا لنا عن الخلال المحدث الامام محمد زاهد الكوثري رحمه الله تعالى في تعليقه على " دفع شبه التشبيه " ص (28) . (*)
[ 15 ]
9) تأويل النضر بن شميل وهو الامام الحافظ اللغوي من رجال الستة ولد سنة (122) ه : ذكر الحافظ البيهقي في " الاسماء والصفات " ص (352) والحافظ ابن الجوزي في هذا الكتاب " دفع شبه التشبيه " أن النضر بن شميل الحافظ السلفي قال : إن معنى حديث : " حتى يضع الجبار فيها قدمه " أي من سبق في علمه أنه من أهل النار . وكذا قال ذلك الامام أبو منصور الازهري كما نقله الحافظ ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه " عنه . وقال الحافظ ابن الجوزي أيضا : " وقد حكى أبو عبيد الهروي - صاحب كتاب غريب القرآن والحديث - عن الحسن البصري أنه قال : القدم : هم الذين قدمهم الله تعالى من شرار خلقه وأثبتهم لها " . 10) تأويل الامام هشام بن عبيد الله : قال الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (10 / 446) في ترجمته : " هو الرازي السني الفقيه ، أحد أئمة السنة " توفي سنة (221) ه . ثم قال الذهبي : " قال محمد بن خلف الخراز : سمعت هشاما بن عبيد الله الرازي يقول : القرآن كلام الله غير مخلوق ، فقال له رجل : أليس الله يقول : (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) فقال : محدث إلينا ، وليس عند الله بمحدث .
[ 16 ]
قلت : لانه من علم الله ، وعلم الله لا يوصف بالحدوث " انتهى كلام الحافظ الذهبي . 1) تأويل سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى : ذكر الحافظ ابن الجوزي أثناء كلامه على الحديث الحادي والثلاثين في " دفع شبه التشبيه " في تأويل حديث : " آخر وطأة وطئها الرحمن بوج " أي : آخر غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف . فانظره هناك . 12) تأويل من جملة تأويلات الحافظ ابن جرير الطبري السلفي ت (311) ه : ذكر الحافظ ابن جرير في " تفسيره " (1 / 192) عند تأويل قوله تعالى : (ثم استوى إلى السماء) ما نصه : " والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله : (ثم استوى إلى السماء) الذي هو بمعنى : العلو والارتفاع . هربا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوله بمعناه المفهوم ، كذلك أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر ، ثم لم يبج مما هرب منه ، فيقال له : زعمت أن تأويل قوله : (استوى) : أقبل ، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها ؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ولكنه إقبال تدبير ، قيل له : فكذلك فقل : علا عليها علو ملك وسلطان لا علو انتقال وزوال " اه . فاتضح بهذا أن السلف كانوا يفسرون الاستواء بالملك والقهر والسلطان والجلال والرفعة والكبرياء والعظمة ، لا بالعلو الحسي ، كما صرح بذلك الامام الحافظ ابن جرير عنهم ، وهذا هو الموافق للشرع والعقل ، وهو الذي
[ 17 ]
قاله أهل الحديث من بعدهم كالحافظ ابن حبان والحافظ البيهقي وبعدهما مثل الحافظ النووي والحافظ ابن حجر الذي يقول في " فتح الباري " (6 / 136) موضحا هذه المسألة : " ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله أن لا يوصف بالعلو لان وصفه بالعلو من جهة المعنى ، والمستحيل كون ذلك من جهة الحس " اه . قلت : وهذا تأويل صريح للعلو من الحافظ بن حجر بأنه علو معنوي لا حسي كما تتوهم المجسمة والمشبهة ، ولا يحصى كم للامام الحافظ ابن حجر وللامام الحافظ النووي من تأويل في شرحهما على الصحيحين البخاري ومسلم . 13) ابن حبان المتوفى سنة (354) ه يؤول أيضا في صحيحه : أول الحافظ ابن حبان في صحيحه (1 / 502) حديث : " حتى يضع الرب قدمه فيها - أي جهنم - " فقال : " هذا الخبر من الاخبار التي أطلقت بتمثيل المجاورة ، وذلك أن يوم القيامة يلقى في النار من الامم والامكنة التي يعصى الله عليها ، فلا تزال تستزيد حتى يضع الرب جل وعلا موضعا من الكفار والامكنة في النار فتمتلئ ، فتقول : قط قط ، تريد : حسبي حسبي ، لان العرب تطلق في لغتها اسم القدم على الموضع . قال الله جل وعلا : (لهم قدم صدق عند ربهم) يريد : موضع صدق ، لا أن الله جل وعلا يضع قدمه في النار ، جل ربنا وتعالى عن مثل هذا وأشباهه " اه . قلت : وقد نقلت هذا الكلام في التعليق رقم (101) على " دفع شبه التشبيه " .
[ 18 ]
14) تأويل الامام مالك رحمه الله تعالى : روى الحافظ ابن عبد البر في التمهيد (7 / 143) وذكر الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (8 / 105) أن الامام مالكا رحمه الله تعالى أول النزول الوارد في الحديث بنزول أمره سبحانه وهذا نص الكلام من " السير " : " قال ابن عدي : حدثنا محمد بن هارون بن حسان ، حدثنا صالح بن أيوب حدثنا حبيب بن أبي حبيب حدثني مالك قال : " يتنزل ربنا تبارك وتعالى أمره ، فأما هو فدائم لا يزول " قال صالح : فذكرت ذلك ليحيى بن بكير ، فقال حسن والله ، ولم أسمعه من مالك " . قلت : ورواية ابن عبد البر من طريق أخرى فتنبه . وقد ذكرنا هذا عن الامام مالك في التعليق رقم (129) . 15) تأويل الحافظ الترمذي رحمه الله تعالى : ذكر الحافظ الترمذي في سننه (4 / 692) بعد حديث الرؤية الطويل الذي فيه لفظة " فيعرفهم نفسه " فقال : " ومعنى قوله في الحديث : فيعرفهم نفسه يعني يتجلى لهم " اه وله تأويل آخر في سننه (5 / 160) 16) تأويل الامام سفيان الثوري رحمه الله تعالى : ذكر الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء (7 / 274) في ترجمة سيد الحفاظ في زمانه الامام الثوري أن معدان سأل الامام الثوري عن قوله تعالى : (وهو معكم أينما كنتم) فقال : بعلمه .
[ 19 ]
قلت : وهذا تأويل ظاهر وصرف للفظ عن ظاهره ، لا سيما وأن لفظة هو الواردة في قوله تعالى : (وهو معكم أينما كنتم) تعود على الذات لا على الصفات أصلا ، ومع ذلك لما كان ظاهرها مستحيلا صرفت إلى المجاز فأولت ، والله الموفق . 17) الامام أبو الحسن الاشعري يؤول في كتابه " الابانة " وفي كتابه " رسالة أهل الثغر " اللذين تتظاهر المجسمة والمتمسلفة الاحتجاج بما فيهما : قال الامام أبو الحسن الاشعري في كتابه " الابانة " المحقق على أربع نسخ خطية (دار الانصار تحقيق الدكتوره فوقيه) ص (21) ما نصه : " وأن الله تعالى استوى على العرش على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي أراده ، استواء منزها عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال ، لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ، ومقهورون في قبضته ، وهو فوق العرش وفوق كل شئ إلى تخوم الثرى ، فوقية لا تزيده قربا إلى العرش والسماء ، بل هو رفيع الدرجات عن العرش كما أنه رفيع الدرجات عن الثرى وهو مع ذلك قريب من كل موجود وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد وهو على كل شئ شهيد " اه . وتنبهوا : إلى أن هذه القطعة من " الابانة " محذوفة من أكثر نسخ الابانة التي طبعها سلفية العصر والموجودة في الاسواق وبأيدي الناس ، وابحثوا عن النسخة المشار إليها وهي متوفرة ومطبوعة . وقال الامام أبو الحسن الاشعري في " رسالة أهل الثغر " وهي من آخر مؤلفاته ص (73) :
[ 20 ]
" وأجمعوا على أنه عزوجل يرضى عن الطائعين له ، وأن رضاه عنهم إرادته لنعيمهم ، وأنه يحب التوابين ويسخط على الكافرين ويغضب عليهم ، وأن غضبه إرادته لعذابهم " اه فالاشعري هنا يؤول الرضا والغضب بصراحة فأين ما يدعيه المتمسلفون ؟ ! ! 18) الحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى مؤول أيضا : كتابنا هذا " دفع شبه التشبيه " يثبت ذلك عنه بلا شك ، والله الموفق . فهذه ثماني عشرة نقطة فيها أكثر من عشرين تأويلا عن الصحابة وأهل القرون الثلاثة من أئمة العلماء والمحدثين كلها تثبت مع الادلة التي سقناها في صدر الكلام أن التأويل حق وأنه من قواعد الشريعة وأنه من نهج السلف الصالح والله الموفق .
[ 21 ]
التفويض أيضا كان مذهب السلف الصالح لقد بينا فيما تقدم بما لا يدع مجالا للشك أن التأويل ثابت في الكتاب والسنة ، وهو من نهج السلف الصالح ، ونقلنا في ذلك ما يبرهن إثبات هذا الامر بوضوح تام ، وبقيت مسألة التفويض ، ولا شك أن السلف كانوا يفوضون الكيف والمعنى وهو المراد بالتفويض عند إطلاقه بلا شك . ومن ذلك قول الامام أحمد رحمه الله تعالى عندما سئل عن أحاديث الصفات : " نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى " رواه عنه الخلال بسند صحيح . ونصوص أئمة السلف في قولهم أمروها كما جاءت مع عدم الخوض في بيان معناها أكثر من أن تحصر ، من ذلك ما قاله الامام الحافظ الترمذي في سننه (4 / 692) : " والمذهب في هذا عند أهل العلم من الائمة مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس ، وابن المبارك ، وابن عيينة ، ووكيع وغيرهم أنهم رووا هذه الاشياء ، ثم قالوا : تروى هذه الاحاديث ونؤمن بها ولا يقال كيف . وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تروى هذه الاشياء كما جاءت (1) (2) (3) (4) ويؤمن بها ، ولا تفسر ، ولا تتوهم ، ولا يقال كيف ، وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه " اه . قلت : وقوله (ولا تفسر هي نفس قول بعض أئمة السلف (قراءتها تفسيرها) ، وقوله (ولا تتوهم) معناه : يصرف ظاهرها الذي يوهم مشابهة الله
[ 22 ]
لخلقه مع تفويض المعنى الحقيقي لله تعالى ، وأما الكيف فلا نحتاج لتفويضه لان الكيف محال على الله تعالى ، كما قال الامام مالك رحمه الله تعالى : (ولا يقال كيف ، وكيف عنه مرفوع) أي أنه لا كيف لله تعالى وهذا الذي قررناه هنا ونقلناه عن السلف هو عين قول صاحب الجوهرة اللقاني الاشعري رحمه الله تعالى : وكل نص أوهم التشبيها أوله أو فوض ورم تنزيها لمن تدبر ذلك . ونقل الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (8 / 105) عن الامام مالك أنه قال في أحاديث الصفات : " أمرها كما جاءت بلا تفسير " . وقال الحافظ الذهبي هناك قبل ذلك بأسطر : فقولنا في ذلك وبابه : الاقرار ، والامرار ، وتفويض معناه إلى قائله الصادق المعصوم " اه . قلت : وقد أجاد الحافظ الذهبي هنا عندما قرر أن الواجب هنا هو تفويض المعنى ، وهذا يوافق ما قاله الامام أحمد " ولا كيف ولا معنى " . وهو يثبت بلا شك أن مذهب السلف والامام أحمد والحفاظ أهل الحديث كالذهبي وغيره أن التفويض في المعنى هو العقيدة التي كان عليها خيار هذه الامة من السلف والخلف وأنها هي الموافقة لقول الله عزوجل : (وما يعلم تأويله إلا الله ، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " آل عمران : 7 .
[ 23 ]
قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (13 / 390) في مسألة الصفات إن فيها ثلاثة مذاهب نقلا عن ابن المنير وذكر المذهب الثالث فقال : " والثالث : إمرارها على ما جاءت مفوضا معناها إلى الله تعالى . . . . . " . ثم قال بعد ذلك مباشرة : " قال الطيبي : هذا هو المذهب المعتمد وبه يقول السلف الصالح " . وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (13 / 383) أيضا مائلا للتفويض : " والصواب الامساك عن أمثال هذه المباحث والتفويض إلى الله في جميعها والاكتفاء بالايمان بكل ما أوجب الله في كتابه أو على لسان نبيه . . . " اه . وقال الحافظ قبل ذلك بأسطر في الفتح (13 / 383) ناقلا عن الحافظ ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى في تقرير التأويل والتفويض : " وقال ابن دقيق العيد في العقيدة : نقول في الصفات المشكلة إنها حق وصدق على المعنى الذي أراده الله ، ومن تأولها نظرنا فإن كان تأويله قريبا على مقتضى لسان العرب لم ننكر عليه ، وإن كان بعيدا توقفنا عنه ورجعنا إلى التصديق مع التنزيه " . اه قلت : وهو كلام في غاية الدقة والروعة والحمد لله رب العالمين ، وقد تبين مما سبق أن التأويل والتفويض كانا عند السلف ولهما أدلة في الكتاب والسنة الصحيحة بلا شك ولا ريب ، وقد أخطأ من قال : " التفويض مذهب السلف والتأويل مذهب الخلف " ، وقد تبين بالبحث والتمحيص أن السلف
[ 24 ]
كانوا يؤولون أحيانا ويفوضون أحيانا فإذا فهمت وعلمت وتأملت ما ذكرناه في إثبات التأويل والتفويض عن السلف فاعلم الآن هذه المسألة المهمة : (مسألة مهمة جدا) : ادعى الشيخ الحراني في كتابه " الموافقة " (1 / 180) بهامش منهاج سنته) أن التفويض من شر أقوال أهل البدع والالحاد فقال هناك ما نصه : " فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والالحاد " (1) ! ! اه فعلى ذلك يكون أئمة السلف الذين نقلنا أقوالهم في التفويض من " سنن الترمذي " وغير ذلك ، والحافظ الذهبي الذي يقول بالتفويض من شر المبتدعين والملاحدة ، فيكونون كفارا ملحدين بنظر الشيخ الحراني الذي يقلب الموازين كيفما يريد ويهوى ، وقد قلده في ذلك ذيله المتناقض ! ! فقال في تعليقه على سنة ابن أبي عاصم ص (212 من الطبعة الثاثية) معلقا على قول سيدنا ابن عباس : (ما بال هؤلاء يحيدون عن محكمه ويهلكون عند متشابهه) ما نصه : " أي يجتهدون ويهتمون لفهم المعنى المراد من القرآن ، عند محكمه ، ويهلكون عند متشابهه لانهم لا يهتمون لفهم معناه الحقيقي مع التنزيه (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) يصرفهم عن ذلك التأويل أو التفويض " اه .
(1) وما ذكره بعد ذلك من ترهات فارغة ليدلل على ما يريد من أن الصحابة فسروا القرآن لا يصلح أن يكون دليلا له ، لانا نقول : إنهم فسروا القرآن وأما حقائق صفات الله فقد فوضوها إلى الله سبحانه وتعالى وهذا هو المطلوب . (*)
[ 25 ]
وهذا كلام يضحك منه صغار الطلبة المبتدئون في تعلم العقائد والتوحيد والذي جعله يقول هذا أنه انحصرت قراءته للعقائد في كتب الشيخ الحراني فظن أن ما يقوله حق ، ولا غرو فهو لم يتلق العلم على أهله بل أخذه من بطون الكتب وصفحات الدفاتر ، وقد قال أحد أئمة السلف : " لا يؤخذ العلم من صحفي " (1) .
(1) قاله الامام القدوة سعيد بن عبد العزيز التنوخي كما في ترجمته من " سير أعلام النبلاء " (8 / 34) . ويقول أحد مريدي ! ! الشيخ المتناقض ! ! الصحفي ! ! " من البلية تشيخ الصحفية " ! ! فتأمل . (*)
[ 26 ]
الدليل على أن حديث الآحاد يفيد - الظن ولا يفيد العلم
[ 27 ]
الباب الثالث إثبات أن خبر الواحد يفيد الظن ولا يفيد العلم عند السلف وأئمة المحدثين وأنه لا يبنى عليه أصول الاعتقاد إعلم يرحمك الله تعالى أن العلماء الحفاظ المتقنين نصوا على أن حديث الآحاد يفيد الظن وأن الحديث المتواتر يفيد العلم ، وعلى ذلك فلو عارض حديث الآحاد نص القرآن أو حديث متواتر أو أجماع أو الدليل العقلي المبني على قواعد الكتاب والسنة أسقط الاحتجاج بخبر الآحاد لمعارضته لما يفيد القطع والعلم وإنني أفتتح بذكر كلام شيخ المحدثين في وقته وهو الحافظ الخطيب البغدادي لانه استوعب ما ذكرته هنا ، ثم أردف ذلك بدليل من السنة الصحيحة على هذه المسألة ثم أذكر أن ما قلته هو مذهب الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من السلف وأئمة المحدثين ، فأقول وبالله تعالى التوفيق : قال الحافظ الخطيب البغدادي في " الفقيه والمتفقه " (1 / 132) : " باب القول فيما يرد به خبر الواحد : . . . . وإذا روى الثقة المأمون خبرا متصل الاسناد رد بأمور : أحدها : أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه ، لان الشرع إنما يرد بمجوزات العقول وأما بخلاف العقول فلا .
[ 28 ]
والثاني : أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ . والثالث : يخالف الاجماع فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له . . . والرابع : أن ينفرد الواحد برواية ما يجب على كافة الخلق علمه فيدل ذلك على أنه لا أصل له لانه لا يجوز أن يكون له أصل وينفرد هو بعلمه من بين الخلق العظيم . الخامس : أن ينفرد برواية ما جرت العادة بأن ينقله أهل التواتر فلا يقبل لانه لا يجوز أن ينفرد في مثل هذا بالرواية " اه كلام الحافظ البغدادي وينبغي أن يعرف القاصي والداني أن خبر الآحاد مقبول عندنا ، معمول به في جميع الابواب إلا في باب أصول العقائد لان المطلوب في هذا الباب عقد القلب على الثابت الذي لا يطرأ عليه خطأ ولا وهم (1) كما سيأتي بعد قليل إن شاء الله تعالى مفصلا ، فإياك أن تمزج بين هاتين القضيتين : (الاولى) : حديث الآحاد مقبول غير مردود يفيد العمل في جميع الابواب الفقهية وفي فروع الاعتقاد . (الثاني) : أن دلالة حديث الآحاد ظنية وليست قطعية ، وبذلك يفارق القرآن والحديث المتواتر والاجماع . ومن نظر في قضايا الاعتقاد الاصلية كوجود الله تعالى وقدمه وعدم مشابهته لخلقه وقدرته وسمعه وبصره وإثبات اليوم الآخر والحساب والعذاب والثواب والمعاد والجنة والنار وأشباه هذه الاشياء وجدها قد ثبتت بأدلة قطعية
(1) وبالاستقراء لمسائل أصول الاعتقاد تجد أن جميعها ثبت بغير الآحاد . (*)
[ 29 ]
الدلالة والثبوت ، وهي أصول الاعتقاد وليست محتاجة لاحاديث آحاد وهذه هي أصل الدعوة التي كانت تصل إلى البلدان والنواحي بطريق الاستفاضة والتواتر ، وكان رسول الله إذا بعث رسله إلى النواحي والاقطار بعثهم ليشرحوا لهم أحكام الاسلام التي وصلت إليهم بطريق التواتر والاستفاضة مجملة ، على أننا لا نسلم البتة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل إلى النواحي رجلا واحدا فتصل إلى أهل تلك النواحي الاحكام والعقائد بطريق هذا الواحد وبذلك لا يصح لهذا القائل الاستدلال على أن العقائد يؤخذ بها بخبر الواحد . ونوضح فنقول : إعلم إن أحكام الاسلام كانت تصل إليهم بطريق التواتر وإليك بعض ذلك ، أول ما بعث صلى الله عليه وسلم واستفاض أمره استفاض أيضا أصل ما يدعو إليه ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلتقي في الموسم عند حج العرب إلى مكة مع أفراد كل قبيلة تحج فيدعوهم إلى ما أمره الله تعالى به من أصول التوحيد الذي بعث به ، وبقي صلى الله عليه وسلم يبلغهم مدة إقامته في مكة وهي الثلاث عشرة سنة قبل أن يهاجر ، وهذا مما يجعل أصول دعوته في التوحيد تنتشر عنه إلى النواحي وقبائل العرب بعدد التواتر لا محالة ، لان كل قبيلة من قبائل العرب لا يتصور أن يفد ويحج منها أقل من عشرة أنفس . ثم لما هاجر عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم استفاض الامر أكثر وانتشر بين القبائل وفي البلدان وذاع أصل ما يدعو إليه أكثر وأكثر ، وأوسع وأبلغ وأشهر ، وكانت الوفود من قبائل العرب ترد عليه وفيهم أهل التواتر بلا مثنوية وإليك أمثله على بعض ذلك معزوة موثقة : 1) قوم مسيلمة الكذاب قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا وفدا كبيرا واجتمعوا به صلى الله عليه وسلم ونقلوا ما أخذوه عنه صلى الله عليه وسلم إلى قومهم نقل أهل التواتر ، روى البخاري
[ 30 ]
في صحيحه (فتح 8 / 89) وغيره من حديث سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما قال : " قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول : إن جعل لي محمد الامر من بعده تبعته . وقدمها في بشر كثير من قومه (1) ، فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس ، وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعة جريد ، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال : لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ولن تعدو أمر الله فيك ، ولئن أدبرت ليعقرنك الله ، وإني لاراك الذي أريت فيه ما رأيت وهذا ثابت يجيبك عني . ثم انصرف عنه صلى الله عليه وسلم " هذا لفظ البخاري في صحيحه . فهذا مثال على من كان يرد من الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم . 2) وأما مثال من كان يرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبائل والبلدان ليعلموهم فأمام أعيننا قصة قراء بئر معونة رضي الله عنهم الذين غدر بهم وكانوا سبعين رجلا أرسلهم صلى الله عليه وسلم ليعلموا إحدى القبائل وهم يزيدون على عدد التواتر بكثير وقصتهم في البخاري (7 / 385 فتح) . وهذا سيدنا معاذ الذي بعثه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن لم يبعثه صلى الله عليه وسلم على جمل لوحده كما يتخيل ، بعضهم ، بل ذهب في جماعة من الصحابة كما هو المعروف والمألوف وكان هو على رأسهم ، ففي تاريخ ابن جرير الطبري (2 / 247) : " عن عبيد بن صخر بن لوذان الانصاري السلمي وكان فيمن بعث النبي
(1) تدبر قوله فيه : " وقدمها في بشر كثير من قومه " وأن بالتقاء هؤلاء البشر بالنبي صلى الله عليه وسلم يحصل نقل أصل التوحيد إلى أهل اليمامة بواسطتهم بالتواتر . (*)
[ 31 ]
صلى الله عليه وسلم مع عمال اليمن في سنة عشر بعدما حج حجة التمام : وقد مات باذام ، فلذلك فرق عملها بين شهر بن باذام ، وعامر بن شهر الهمداني ، وعبد الله بن قيس أبي موسى الاشعري ، وخالد بن سعيد بن العاص ، والطاهر بن أبي هالة ، ويعلي بن أمية ، وعمرو بن حزم ، وعلى بلاد حضرموت زياد بن لبيد البياضي وعكاشة بن ثور بن أصغر الغوثي . . ومعاوية بن كندة ، وبعث معاذ بن جبل معلما لاهل البلدين : اليمن وحضرموت " اه . قلت : فهؤلاء بعض من كان مع سيدنا معاذ حين بعثه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن من المسؤولين ما عدا الآخرين الذين كانوا أيضا بصحبته ، والمترددين من أهل اليمن بين بلادهم والمدينة ممن نقل أصل الدعوة وأصول التوحيد والعقيدة إلى تلك البلاد كالاشعريين الذين منهم أبو موسى الاشعري وأصحابه ، فأين هذا عن عقل من يتخيل أن سيدنا معاذا ركب جملا وحده وذهب مبعوثا فريدا إلى اليمن من علمه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سفر الرجل وحده ، وهل بعد هذا البيان والايضاح يصح لعاقل أن يستدل على أن خبر الواحد يفيد العلم أو نحو هذه التخليطات بقصة سيدنا معاذ رضي الله عنه (1) ؟ ! عافاكم الله أيها المتحذلقون استيقظوا ! ! وإذا وصلنا إلى مثل هذا المقام وانتسف عمدة أدلة من يجعل خبر الواحد دليلا في أصول الاعتقاد ويزعم أنه يفيد العلم فلابد أن نذكر أدلتنا في ذلك فنقول وبالله تعالى التوفيق :
(1) وأزيد مؤكدا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلى ناحية من النواحي رجلا واحدا وإنما كان يبعث بعثا - عددا من الصحابة - وإنما كان يسمى الرجل الواحد لانه أمير ذلك البعث بدليل ما رواه الامام أحمد في مسنده (5 / 356) أثناء قصة عن بريدة قال : " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثين إلى اليمن ، على أحدهما علي بن أبي طالب . . . " وإسناده حسن ، وفيه تأكيد أيضا على أن سيدنا معاذ كان في بعث - جماعة - لما ذهب ولم يكن وحده ، فبطل استدلال من يستدل بقصته في خبر الآحاد والحمد لله . (*)
[ 32 ]
1) ثبت في صحيح البخاري (فتح 1 / 566) ومسلم (1 / 403 برقم 573) أن ذا اليدين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما صلى الظهر أو العصر ركعتين : " يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة ؟ ! فقال له : لم أنس ولم تقصر ثم قال للناس : أكما يقول ذو اليدين ؟ فقالوا : نعم . فتقدم فصلى ما ترك ثم سلم . . . .) اه قلت : لما قال ذو اليدين لرسول الله صلى الله عليه وسلم (أنسيت أم قصرت الصلاة) أفاد ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الظن لاحتمال الوهم والخطأ على ذي اليدين مع كونه راويا عدلا ضابطا ثقة وهو صحابي ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فلما صدقوا خبر ذي اليدين وهم عدد التواتر وأكثر تحقق عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر وأفاد العلم . فاستفدنا من ذلك أن خبر الواحد وهو ذو اليدين لم يفد عند رسول الله إلا الظن لا أنه لا يعمل به ، بدليل أن أحاديث أخرى من أخبار الآحاد عمل بها الصحابة بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم ، كحديث انحراف أهل قباء أثناء صلاة الجماعة لما أتاهم آت فشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم توجه نحو القبلة كما في البخاري (فتح 1 / 502) وفي رواية ذكرها الحافظ هناك في صحيح البخاري بدل (رجل) (رجال) في رواية المستملي والحموي لصحيح البخاري انظر الفتح (1 / 503) وهذا مما يعكر الاستدلال بهذا الحديث بخبر الواحد جزما . والبخاري رحمه الله تعالى في صحيحه أورد حديث ذي اليدين في كتاب أخبار الآحاد مما فيه رفض لخبر الواحد إذا ارتيب فيه وأورد غيره مما يجعل خبره في العمليات دون الاعتقاديات حجة ، وهذا يدلنا دلالة أكيدة على أن البخاري يرى أن من أخبار الآحاد الصحيح ما هو مقبول ومنه ما
[ 33 ]
هو غير ذلك ، ويشهد لهذا ويعضده أن السلف من أئمة الحفاظ والمجتهدين والمحدثين ردوا أخبارا صحاحا ولم يقبلوها ومنها ما هو في الصحيحين كما سيأتي في الفصل الذي بعد هذا عن الامام أحمد بن حنبل وغيره ، ولم يعهد عن أحد منهم أنه رد آية في كتاب الله تعالى مما يدل ويؤكد أن القرآن يفيد العلم ولا يجوز رده بحال وأن الحديث الصحيح يفيد الظن فيجوز رده بما هو أقوى منه إن عارضه ولم يمكن الجمع وسيأتي في ذلك أمثلة عديدة لا تجعل في ما قررناه أدنى شك وبالله تعالى التوفيق . رد الصحابة بعض أحاديث الآحاد الثابتة واستيثاقهم منها أحيانا أخرى 2) رد السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها على سيدنا عمر رضوان الله عليه في حديث " تعذيب الميت ببكاء أهله عليه " . روى البخاري (فتح 3 / 151 - 152) ومسلم (2 / 638 - 642) أن سيدنا عمر وابنه سيدنا عبد الله رويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه " فردت ذلك السيدة عائشة وقالت كما في صحيح مسلم (برقم 27 في الجنائز) عن عمرة أنها سمعت السيدة عائشة وذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول : إن الميت ليعذب ببكاء الحي . فقالت السيدة عائشة : يغفر الله لابي عبد الرحمن . أما إنه لم يكذب ، ولكنه نسي أو أخطأ . إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكى عليها فقال : " إنهم ليبكون عليها ، وإنها لتعذب في قبرها " .
[ 34 ]
قال الامام الحافظ النووي رحمه الله تعالى في " شرح صحيح مسلم " (5 / 228) : " وهذه الروايات من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما ، وأنكرت عائشة ، ونسبتهما إلى النسيان والاشتباه عليهما ، وأنكرت أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك واحتجت بقوله تعالى : (ولا تزر وازرة وزر أخرى) قالت : وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم في يهودية أنها تعذب وهم يبكون عليها يعني تعذب بكفرها في حال بكاء أهلها لا بسبب البكاء " اه . قلت : وجاء في عدة أحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى على الميت ، وسكت عمن بكى على الميت أيضا . فمن تأمل هذا الحديث " الميت يعذب ببكاء أهله عليه " الثابت في الصحيحين وهو من أخبار الآحاد ورد السيدة عائشة له بالنص القطعي في القرآن (ولا تزر وازرة وزر أخرى) عرف أن حديث الآحاد ولو رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم إثنان فإنه لا يفيد إلا الظن ، وما لا يفيد إلا الظن أي يحتمل فيه الخطأ كيف تبنى عليه العقائد ؟ ! ! وهل يجوز أن يعتقد المسلم في ذات الله تعالى بأشياء يحتمل أن يظهر له بعد ذلك أنها خطأ ؟ ! ! ولماذا سميت عقيدة إذن إذا لم تكن مبنيه على الثوابت التي لا يمكن أن يطرأ عليها ما يزيلها ؟ ! ! 3) ردت السيدة عائشة على من قال أو روى أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه وهو ابن عباس رضي الله عنه وغيره ، ففي صحيح مسلم (1 / 158 برقم 284 و 285) عن عطاء عن ابن عباس قال : " رآه بقلبه " وقال : " رآه بفؤاده مرتين " قلت : وقد قال الحافظ في " الفتح " (8 / 608) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
[ 35 ]
" رأيت ربي " ، وذكر قبل ذلك بتسعة أسطر أن ابن خزيمة روى باسناد قوي عن سيدنا أنس أنه قال : " رأى محمد ربه " . قلت : ردت السيدة عائشة رضي الله عنها جميع ذلك كما في البخاري (فتح 8 / 606) ومسلم (1 / 159 برقم 287) عن مسروق قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : يا أمتاه ، هل رأى محمد ربه ؟ فقالت : " لقد قف شعري مما قلت ، أين أنت من ثلاث من ح