المحكم والمتشابه في القرآنالشيخ محمد الخضر حسين
المصدر: مجلة: "الهداية الإسلامية" الجزء الحادي والثاني عشر من المجلد الثامن عشر، الجمادان، 1356 هـالمحكم والمتشابه في القرآنلكل من المحكم والمتشابه معنى في أصل اللغة، ومعنى في عرف الشرع؛ أما المحكم لغة، فإن مادة "حكم" تدور على معنى الصرف والمنع، ومنه (حكمة اللجام) للحديدة التي تمنع الفرس من الاضطراب والجموح، ومنه حكم الحاكم؛ لأنه منع للظالم من وضع يده على حق غيره، ومنه الحكيم؛ لأنه يمنع نفسه من اتباع هواها وارتكاب ما لا يليق.
ويرجع إلى هذا المعنى قولهم: أحكمته إحكامًا إذا أخذت على يده، قال جرير:
أَبَنِي حَنِيفَةَ أحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أَغْضَبَا
ومنه الإحكام بمعنى الإتقان؛ لأنه منع للشيء من الخلل والخطأ، يقال: بناء محكم؛ أي متين، لا وهن فيه ولا خلل.
وأما المتشابه، فمعناه في أصل اللغة أن يكون أحد الشيئين مشابهًا للآخر، ولما كان من شأن المتشابهين تعذر التمييز بينهما، أطلق هذا الاسم على كل ما لا يهتدي الإنسان إلى حقيقة المراد منه، من باب إطلاق اسم السبب على المسبب، ومما جاء فيه التشابه بمعنى تعذر التمييز قوله تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا}[1]، ومما جرى على هذا الوجه قولهم: اشتبه عليه الأمر.
وأما معنى المحكم والمتشابه في عرف الشريعة، فقد اختلفت فيه آراء أهل العلم مذاهب، ولا نطيل البحث بإيراد الأقوال الضعيفة ومناقشتها، وإنما نعمد إلى قولين مشهورين بين أهل العلم، وننظر في أدلتهما، فنعلم أيهما أوفق لحكمة الشريعة، وأقرب إلى فهم قوله تعالى: {مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}[2].
وأول القولين أن المحكم: ما اتضحت دلالته، والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه، وهذا مذهب من يؤمنون بالمتشابه، ويفوضون العلم به إلى الله تعالى، وبهذا سموا "مفوضة"، وينسب هذا المذهب إلى جمهور السلف، والمفوِّضة يتفقون على صرف الألفاظ في المتشابه عن معانيها المعروفة عند العرب، وهم بعد هذا فريقان: فريق لا يتعرضون إلى المعنى المراد ولو بوجه مجمل، وفريق قد يعينون نوع المجاز؛ كأن يحملوا الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، والوجه في قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] على أنه صفة من صفات الله؛ ولكنهم يفوِّضون معنى هذه الصفة إلى الله تعالى، وهذا ما ينسب إلى الأشعري وأكثر السلف.
وثاني القولين المشهورين أن المحكم ما اتضحت دلالته، والمتشابه ما كان خفي الدلالة، وهؤلاء يؤولون المتشابه على ما ترتضيه أفهامهم من المعاني، فيخرج من الخفاء إلى وضوح، ولهذا سموا "مؤولة"، والتأويل إما بحمل الألفاظ على الحذف أو المجاز المفرد، وإما بحملها على طريقة التمثيل.
واختلاف الجمهور في معنى المتشابه بهذين القولين، اقتضاه اختلافهم في معنى قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}.
فالمفوضة يقولون: إن قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مبتدأ، وجملة {يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ} خبر عنه، ومفاد هذا الوجه من الإعراب أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه من الآيات؛ والمؤولة يقولون: إن قوله {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} معطوف على اسم الجلالة عطف المفرد على المفرد، وقوله {يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ} استئناف مبين لحال الراسخين في العلم، ومقتضى هذا الوجه من الإعراب أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه، ويقولون مع التأويل له: آمنا به، كل من المحكم والمتشابه من عند ربنا.
ولننظُرْ في هذين المذهبين من جهة الآية أولاً، ثم من جهة الأدلة الخارجة عن الآية ثانيًا.
أما من جهة ما تدل عليه الآية، فقد قال أصحاب مذهب التفويض: الظاهر أن قوله تعالى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} وقع معادلاً لحال الزائغين المشار إليه بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}، ويكون معنى الآية: وأما الراسخون في العلم، فيقولون آمنا به، ولم يأتِ في الآية على هذا الوجه الظاهر في المعادلة، مبالغة في رفع شأن الراسخين في العلم، حيث لم يسلك بهم مسلك المعادلة اللفظية لأولئك الزائغين.
وأجاب المؤولة بأن المعادل لا يلزم أن يكون مذكورًا في النظم؛ بل قد يكون محذوفًا اكتفاء بما يدل عليه من القرائن اللفظية أو الحالية، فيصح أن يقال: إن المعادل لقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} محذوف، وتقديره: وأما الذين في قلوبهم هدى وطمأنينة، فلا يتبعون ما تشابه منه ليفتنوا به الناس، ويؤولوه على حسب أهوائهم.
وقال المفوضة أيضًا: إن قوله تعالى {يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ} ينبئ أن الراسخين لا يعلمون تأويله؛ إذ لو كانوا ممن يعلم تأويله لم يكن لهذا القول فائدة، إذ لا غرابة في الإيمان بما ظهر معناه، وإنما تكون له فائدة حيث يكون إخبارًا عن إيمانهم بالمتشابه، مع عدم فهمهم للمراد منه.
ويجاب عن هذا بأن قولهم آمنا به، إيحاء إلى أن إيمانهم به هو الذي دعاهم إلى أن يسلكوا في تأويله الطريقة اللائقة به، وفي ذلك تعريض بأن من اتبعوا المتشابه ابتغاء الفتنة، وتأولوه على ما يوافق أهواءهم ليسوا بمؤمنين[3].
وقال المؤولة: إن وصف أهل العلم في الآية بالرسوخ يقتضي أن يكون الحكم المسند إليهم مما يحصل بطريق الرسوخ في العلم، فيكون الحكم المثبت لهم هو العلم بالمتشابه، لا مجرد قولهم آمنا به، فإن هذا القول لا يمتاز به الراسخون في العلم؛ بل يستوي فيه الراسخون في العلم وغير الراسخين، قال ابن عطية: "تسميتهم راسخين تقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلمه الجميع، وما الرسوخ في العلم إلا المعرفة بتصاريف الكلام بقريحة معدة".
وأجاب أنصار مذهب المفوضة بأن فائدة وصفهم بالرسوخ في العلم المبالغة في قصر علم تأويل المتشابه على الله تعالى؛ لأنه إذا قيل: إن الراسخين في العلم لا يعلمونه، وذلك مفاد قوله: {يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ}، كان عدم علم غيرهم بتأويله مفهومًا بالأولى.
وأما الاستدلال بأمور خارجة عن مدلول الآية، فيرجع إلى ثلاثة وجوه: القراءات، والآثار، وحكمة التشريع.
أما القراءات فقد استدل المفوضة بما رواه الحاكم في مستدركه أن ابن عباس كان يقرأ: (وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به)، وهذه القراءة تدل على أن الواو في قوله: (والراسخون في العلم) للاستئناف؛ لا لعطف الراسخين على اسم الجلالة، ويجيب المؤولة بأن هذه الرواية لا تثبت بها القراءة، وإن أنزلناها منزلة خبر الآحاد، فهي لا تزيد على إفادة أن ابن عباس يرى أن المتشابه مما استأثر الله بعلمه، وقد اختلفت الرواية في هذا عن ابن عباس، ومما حكي عنه أنه قال بعد تلاوة الآية: "أنا ممن يعلم تأويله".
وتمسَّك أنصار مذهب المفوضة بقراءة الوقف على اسم الجلالة، ثم استئناف القراءة بقوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ}، والوقف على اسم الجلالة شاهد بأن العلم بالمتشابه مما استأثر الله به، وليس لمخلوق عليه من سبيل.
وحَمَل بعض أنصار مذهب التأويل قراءة الوقف على أن المراد من المتشابه ألفاظ استعملت في معانٍ ليس للبشر قابلية لفهمها بالكنه، ويراد إفهامها لهم بوجه مجمل؛ كالنصوص الواردة في بعض أحوال يوم القيامة.
وأما الاستدلال من جهة الآثار، فقد روي أن صَبِيغ بن عسيل جاء من البصرة إلى المدينة في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأخذ يسأل الناس عن متشابه القرآن وعن أشياء، فأحضره عمر وضربه ضربًا موجعًا، ثم أرجعه إلى البصرة، وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن يمنع الناس من مخالطته، ولو كان المتشابه مما يعلمه الراسخون في العلم، ولا أرسخ في علم الشريعة من الصحابة، لترك صبيغ لِمَن يُجيبه عن تأويل ما يسأل عنه من المتشابه.
وقد يجاب عن هذا بأن صبيغًا لم يكن يسأل عن المتشابه استرشادًا؛ بل كان يورد المتشابهات تعنتًا، فإنما عاقبه عمر لسوء قصده، ومنع الناس من مخالطته حذرًا من أن يفتن بأسئلته قلوب العامة.
وأمَّا الاستدلال من جهة حكمة التشريع، فقد قال أصحاب طريقة التأويل: يبعد أن يخاطب الله تعالى عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته، وأجاب المفوضة بأن ورود مثل هذا الخطاب يكفي في حكمته ابتلاء العبد بتلقي كلمات من الشارع لا يعلم المراد منها، ليظهر فضله في الإيمان بها، وتفويض أمرها إلى الله، مقرًّا بالعجز عن الوصول إلى المراد منها.
ويختلف المفوِّضة في ضبط أنواع المتشابه، فابن حزم - وهو من أصحاب هذا المذهب - يخص المتشابه بالحروف والأقسام الواردة في أوائل السور، فقال في كتاب "الإحكام": "والمتشابه لا يوجد في شيء من الشرائع إلا بالإضافة إلى من جهل دون من علم، وهو في القرآن، وهو الذي نهينا عن اتباع تأويله وعن طلبه، وأمرنا بالإيمان به جملة، وليس هو في القرآن إلا للأقسام التي في السور، كقوله تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 1 - 2] وقوله: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2] والحروف المقطعة في أوائل السور، وكل ما عدا هذا من القرآن، فهو محكم".
والمعروف بين أهل العلم، أن السلف يعدون في المتشابه ألفاظًا واردة في الآيات والأحاديث، تدل بمقتضى استعمالها العربي على صفات أو أفعال يستحيل إضافتها إليه تعالى، نحو قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5].
ومن المفوضة أبو إسحاق الشاطبي، غير أنه قسم المتشابه إلى حقيقي وإضافي، وأراد من الحقيقي ما لا سبيل إلى فهم المراد منه، وأراد من الإضافي ما اشتبه معناه لاحتياجه إلى مراعاة دليل آخر، وقال: "فإذا تقصى المجتهد أدلة الشريعة، وجد فيها ما يبين معناه، والتشابه بالمعنى الحقيقي قليل جدًّا، وبالمعنى الإضافي كثير"، وليس من شك في أن هناك آيات كثيرة وأحاديث قد يعدها بعضهم من قبيل المتشابه، وينبغي إخراجها من دائرة الاختلاف، حيث إنه يمكن فهمها على وجه صحيح لا كلفة فيه، ونضرب المثل لهذا آيات أو أحاديث تشتمل على ألفاظ عرف في كلام العرب استعمالها في معانٍ على وجه الكناية أو المجاز، وصح حملها على هذه المعاني المعروفة في الاستعمال؛ كقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}[4]، فإن حمل الآية على معنى الجود واضح لا شبهة فيه.
ويخرج عن موضع الاختلاف آيات الأحكام؛ إذ ليس لأحد أن يقول في آية أو حديث يرجع إلى التشريع: إن هذا من قبيل ما استأثر الله بعلمه.
ونختار بعد هذا أن في القرآن آيات متشابهات؛ أي غير واضحة الدلالة، فإما أن تصل إليها أفهام الراسخين في العلم بعد النظر، وإما أن تصل إليها أفهام بعض منهم دون بعض، وفهمها إما أن يكون على وجه مفصل، وإما أن يكون على وجه مجمل تحصل به فائدة للمخاطب، وإن لم يصل إلى كنه المراد منه؛ كالآيات والأحاديث الواردة في بعض أحوال يوم القيامة، أما أن يخاطب الله عباده بكلام يستأثر بعلمه، ولا يفهم منه أحد ماذا أريد منه ولو بطريق الإجمال، فذلك ما نراه بعيدًا، ولم تقم أدلة تلجئنا إلى اعتقاد وجوده.
لا يظهر للمتشابه على مذهب المفوضة فائدة سوى ابتلاء العبد بتلاوة كلمات تعلو عن فهمه، ولكنه يتيقن أنها حق، ويفوض أمرها إلى الله، مقرًّا بالعجز عن الوصول إلى معناها، وذلك دليل قوة الإيمان.
وأما على مذهب المؤولة فله فوائد متعددة، منها أن وجود المتشابه في الشريعة يجعل في الوصول إلى المراد صعوبة ومشقة، وذلك موجب لزيادة الثواب عند الله، ومنها أن وجود المتشابه يدعو الإنسان إلى الرجوع إلى الأدلة النظرية، فيصل إلى الحقائق من طرق الاستدلال، ويتخلص من أسر التقليد، ومنها أن البحث عن المراد من المتشابه يعلم الإنسان طرق التأويل ووجوه ترجيح بعض هذه الطرق على بعض، قال الطيبي مشيرًا إلى هذا الوجه: "إنما كان المتشابه في القرآن؛ لأنه باعث على تعلم علم الاستدلال، ذلك أن معرفة المتشابه متوقفة على معرفة الاستدلال، فتتوجه الرغبات إليه".
ويذكرون في فوائد ورود المتشابه أن القرآن دعوة للخواص والعوام، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق، كإثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه، وقد يسبق إلى ذهنه أن هذا عدم ونفي، فيقع في التعطيل، فكان من الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ يتبادر إلى أذهانهم منها ما يتخيلونه، وذلك هو المتشابه، ويوضع بجانب هذا ما هو حق صريح يدل على أن المراد غير ما سبق إلى أذهانهم، وهذا الوجه من حكمة ورود المتشابه ظاهر فيما كان من قبيل الصفات ونحوها.
---------------------------[1] البقرة – الآية 70.
[2] آل عمران – الآية 7.
[3] والفرق بين التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم، والتأويل الذي يبتغيه الزائغون أن الأول يقوم على الدليل، والثاني يقوم على الهوى؛ ابتغاء الفتنة.
[4] المائدة – الآية 64.
المصدر : ملتقي النخبة الاسلامي