وقد أصدر أبو بكر - رضي اللّه عنه- كتاباً عاماً وجهه إلى المرتدين في أنحاء الجزيرة وأرسل بهذا الكتاب رسلا يتقدمون الجيش ليقرؤوه على الناس حتى يفتح لهم باب الرجوع إلى الحق ويتيح لهم الفرصة المناسبة لكي يتـدبروا أمرهم وحتى يبرئ ذمته أمام اللّه قبل أن تقع الحرب وتراق(29) الدماء(30).
وكان من نتيجة ذلك أن وقعت اصطدامات بين جيوش المسلمين وهؤلاء المتمردين من المتنبئين والمرتدين وبذل المسلمون في هذه الحروب كل قوتهم وتجلى(31) إيـمانهم في أروع صورة واستطاعوا في النهاية وقبل مرور عام أن يقطعوا دابر الفتنة ويعيدوا المرتدين إلى دينهم الذي بلّغه الرسول صلى الله عليه و سلم.
ثالثاً: جمع القرآن الكريم:
لقد كانت هذه الفكرة من عمر بن الخطاب- رضي اللّه عنه- أخرج البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت- رضي اللّه عنه- قال: "أرسل إليّ أبو بكر الصديق بعد مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده " قال أبو بكر- رضي اللّه عنه-: "إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر(32) يوم اليمامـة. بقُرَّاء القرآن وإني أخشى إن استمر القتل بالقُراء بالمواطن(33) فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن… ولم يزل عمر يراجعني حتى شرح اللّه صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر وأمر زيد بن ثابت فجمع القرآن من العسب(34) واللخاف(35) وصدور الرجال(36).
رابعاً: الفتوحات الإسلامية:
بعد أن استقر الحكـم لأبي بكر الصديق- رضي اللّه عنه- وقمع فتنة المرتدين وعادت الأمور إلى نصابها اتجه الصديق- رضي اللّه عنه- إلى الغاية السـامية في الإِسـلام وهي إعلاء كلمة لا إله إلاّ اللّه محمد رسول اللّه وإخراج الناس بها من الظلمات إلى النور لذا فقد آن الأوان لنشر الدعوة خارج الجزيرة العربية فكانت الفتوحات في عهده في جبهتين:
الأولى: جبهة الفرس في الشرق: لما فرغ خالد بن الوليد من قتال المرتدين أرسله أبو بكر بجيش إلى العراق لمحاربة الفرس الذين رفضوا دعوة الإِسلام، ودارت أول معركة بين الطرفين في كاظمة(37) فانهزم الفرس وقُتِل قائدهم، وغنم المسلمون غنائم كثيرة ثم توالت انتصارات المسلمين في عدة معارك حتىِ دخلت أكثر المناطقِ الواقعة غرب الفرات تحت حكمهم حرباً أو صلحاَ واتخذوا الحيرة مركزاً لهم.
وفي شهر صفر من السنة الثالثة عشرة أمر أبو بكر خالد بن الوليد أن يتوجه مع قسم من الجيش إلى الشام لمساعدة المسلمين هناك على الروم، وأمر أن يخلف على العراق المثنى بن حارثة(38).
الثانية: جبهة الروم في الشمال: وجه أبو بكر - رضي اللّه عنه - خالد بن سعيد بن العاص على رأس جيش من الدعاة الفاتحين إلى مشارق الشام وعسكر بتيماء والتقى الروم ثم كتب إلى أبي بكر يطلبه المدد والعون فجهز أبوبكر - رضي اللّه عنه - أربعة جيوش.
الأول: قائده عمرو بن العاص ووجهته إلى فلسطين.
الثاني: قائده شرحبيل بن حسنة ووجهته إلى الأردن.
الثالث: قائده يزيد بن أبي سفيان ووجهته البلقاء.
الرابع: قائده أبو عبيدة عامر بن الجراح ووجهته حمص(39).
ووصلت جيوش المسلمين إلى مشـارف الشام وفلسطين في أوائل السنة الثالثة عشرة للهجرة ودارت بينها وبين جيوش الروم عدة اشتباكات تلتها معارك كبيرة وفتوحات عظيمة منها:
أ- معركة أجنادين: سنة 13 هـ :
بعد المناوشات(40) الأولى بين المسلمين والروم أعد ملك الروم هرقل جيشاً كبيراً لمقاتلة المسلمين.
فاستنجد المسلمون بأبي بكر- رضي اللّه عنه- وأمر أبو بكر خالد بن الـوليد أن يتوجه من العراق بقسم من الجيش لنجدتهم واخترق خالد الصحراء بسرعة مذهلة حتى التحق بالمسلمين في الشام فتولى قيادتهم ورتبهم ترتيباً ممتازاً وانطلق الجميع للوقوف مع عمرو بن العاص الذي كان يواجه جيشاً رومياً كبيراً في أجنادين من أراضي فلسطين ولما التقى الطرفان هزم المسلمون الروم هزيمة كبيرة (41) وانتصروا عليهم.
ب- مرج الصُّفر سنة 13:
حدث هذا اللقاء إلى الجنوب من دمشق مع قوات الروم التي جاءت من حمص في الشمال فتلتف لتقابل المسلمين من الجنوب... وقف خالد ومعه أبو عبيدة وراء الصفوف وسار بهم نحو جيش الروم الذي بعثه هرقل وكـانـوا من أهل القوة والشدة ليغيث حامية دمشق التي كان يحاصرها المسلمون فاضطر المسلمون إلى أن يسيروا نحوها، وبلغ عدد الروم أكثر من عشرة آلاف اجتمعوا في مرج الصفر ونظر إليهم خالد بن الوليد ثم أسرع يعبئ جيشـه كتعبئـة يوم أجنـادين وفي هذه المعركة انهزم الروم وأصاب المسلمون عسكرهم وقتلوا منهم كثيراً وتبددت فُلولهم(42) (43).
مرض أبي بكر- رضي اللّه عنه- ووفاته:
كان سبب مرض أبي بكر الصديق- رضي اللّه عنه- أنه اغتسل في يوم بارد فأصيب بالحُمى خمسة عشر يوماً لا يخرج فيها إلى الصلاة وكان يأمر عمر بن الخطاب أن يصلي بالناس وكان الناس يدخلون إليه يزورونه وهو في البيت وكان عثمان- رضي اللّه عنه- ألزمهم له في مرضه.
ومـازال المرض به حتى توفي أبو بكر- رضي اللّه عنه- مساء ليلة الثـلاثـاء لثـماني ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة للهجرة فكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال.
وقـد أوصى- رضي اللّه عنه- أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس – رضي اللّه عنها- وكفن بثوبين وقيل: بثلاثة.
وصلى عليه عمر بن الخطاب- رضي اللّه عنه-، ودفن ليلاً إلى جانب صاحبه عليه الصلاة والسلام وجُعِل رأسه بمحاذاة(44) كتفي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (45) رحمه اللّه ورضي عنه وجزاه عن الإِسلام والمسلمين خير الجزاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني المجلد الأول رقم 306، أخرجه الحاكم في المستدرك 3/62, 63.
(2)فتح الباري 7/170.
(3) فتح الباري 7/18.
(4) سورة التوبة آية 40.
(5) جمع رقيق وهو المحلول.
(6) أحمد، فضائل الصحابة 1/65 بإسناد صحيح.
(7) الخوخة: باب صغير ينفذ منه إلى المسجد.
(
عصر الخلافة الراشدة، للدكتور/ أكرم ضياء العمري ص 63.
(9) خفيف العارضين: العارض صفحة الخد والمراد خفيف شعر الخد.
(10) أجنأ: الأحدب وكذلك يطلق على انحناء ما بيت الكتفين على الصدر.
(11) غائر العينين. أي عيناه داخلتان في رأسه.
(12) الخلفاء الراشدون، أمين القضاة صح15.
(13) أوّاهاً: الأوّاه كثير الدعاء وكذلك رحيم القلب ورقيقه.
(14) رشح: أي اختياره وهيئوه للخلافة.
(15) خطبته بعد البيعة كما سَيأتي إن شاء الله.
(16) عصر الخلافة الراشدة، للدكتور/ أكرم ضياء العمري.
(17)مسند أحمد 2/133.
(18) انظر لمحات في الخلافة الراشدة، للدكتور / عـبد العزيز محمد نور ولي.
(19) سيرة ابن هشام 4/661، البداية والنهايةِ 6/305.
(20) قمع: أي قهرهم وذَللَّهم (المرتدين).
(21) لمحات في الخلافة الراشدةَ، للدكتور/ عبد العزيز محمد نور ولي.
(22) أنباء. أي أخبار.
(23) أغار: أي اشتد قي العدو وأسرع.
(24) لمحات في الخلافة الراشدة، للدكتور/ عبد العزيز محمد نور ولي ص8.
(25) فتح الـباري 12/276.
(26) أخرجه البخاري في الاعتصام، ومسلم في الإيمان، وأبو داود، والنسائي في الزكاة، والترمذي في الإيمان.
(27) العناق: السخلة الأنثى الصغيرةَ من الماعز.
(28) التاريخ الإسلامي، محمود شاكر ص 68.
(29) تُراق الدماء: تنصبّ
(30) انظر نص هذا الكتاب في البداية والنهاية، لابن كثير ج5 ص 320-321.
(31) تجلى: ظهر.
(32) استحر: اشتد
(33) المواطن: جمع موطن وهي المشهد من مشاهد الحروب.
(34) العسب: جمع العسيب وهي حريدة النخل المستقيم يكشط ورقها.
(35) اللخاف: جمع اللخفة وهي حجر أبيض عريض رقيق.
(36) الخلفاء الراشدون. الدكتور أمين القضاة ص 30.
(37) انظر الخريطة ص 19.
(38) السيرة النبوية وتاريخ الخلفاء الراشدين، عبد الله الصالح العثيمين ص 81.
(39) الخلفاء الراشدون، الدكتور أمين القضاة ص 30
(40) المناوشاتْ: جمع مناوشة أي خالط مقدمة الجيش.
(41) السيرة الـنبوية وتاريخ الخلفاء الرَاشدين، عبد الله الصالح العثيمين ص 86.
(42) فلولهم: أي الباقي المنقطع منهم.
(43) الطريق إلى دمشق، أحمد عادل كـمال ص 293.
(44) بمحاذاة: أي وازاه.
(45) الخلفاء الراشدون، الدكتور أمين القضاة 33.
وصلي الله علي حبيب الله وعلي اله وصحبه اجمعين ورضي الله عن سيدي ابوبكر الصديق ...
ودمتم في امان الله وحفظه...